الوجه الضائع
قصة : عيسى القنصل
ضجيجُ الناس ِ في الشوارع , أصوات ابواق
السيارات المزعجة , الاقدام المتراكضة من حوله فى جنون , والف ألف وجه يمر أمام
عينيه فلا يحس ُ بشىء ..ساحـــــــــــة
الجامع الحسينى ...نافورةُ ميتة ُ بلا ماء
...هذه النافورة تثيرنى الى درجة الجنون لماذا
لا تتدفق بالماء ِ؟ ميتة ُ على الدوام ؟ . يتجاوزها
في نزق ِ ,وحقد . هى وحدها التـــــى
تلفت انتباهه كلما مر فى هذا الشارع . لا بد من
الوصول الى البنك ليودع بعــــــــــض
النقود ...الناس ُ فى البنك كلها صامتة ُ تراقب
ُ النقود المتبادلة ...خيّل اليه انهم
كتـــــل
من
الاموال تتحرك امامه , ثمة طاولة صغيرة في وسط مدخل البنك ذكّرته ُ
فـــــــــى
اصرار غريب في نافورة الجامع الحسينى ...فكًّر
فيها كثيرا جداً .. كم اتمنى ان ارا كِ
متدفقة ايتها النافورة ؟؟ ميتة ُ وأمام الجامع ؟
وقذرة ُ على الدوام ؟؟ أواه لو تتاح لــــــى
فرصة ً واحدة ً لأغسلك وأدفق ُ فيك المياه ...
صوت ُموظف البنك ِ يعيده الى صوابه ِ ( نعم فى
حساب المعلم سامى ) ..عاد الى موخرة الطابور مرة اخرى لانتظار الوصل ..عادت لذهنه
صور ُ عديده لافلام عــــــن
سرقة البنوك , كيف حفروا خندقا بالشارع للوصول
الى مكان الخزنه وتمت السرقـــــة
هل يستطيع احد هنا سرقة البنوك ؟؟ ثم عاد الى
صوابه على صوت مزظف البنك ينادى
باسمه ... اخذ وصل الوديعة وخرج الى الشارع ...
وجهُ المعلم (سامى) يحرمه ُ حتى الابتسامه مع
نفسه . ( أوضعت النقود يا صبرى ) ..
يناوله الوصل فى صمت كامل . أواه كم يطيب لى ان
اخنقك ..حتى ولا شكراً..ومع ذلك
يبقى صبرى بلا دمعة او تنهيده ...فمن المخجل ان
نبيع أحزاننا للناس مقابل نظرات ...
شفقة أواحسان . لم يكن صبرى من ذلك الصنف الحقود
.. ولم يكن يبتسم ابتسامـــــــــة
الواثق ِ من قدوم غده ِ ..فكره ُ يقوده دائما
للوراء مقارنا بين حاضره وماضّيه
عندمــــا
كان طالبا ً فى احدى مدارس بيت لحم . كان ترتيبه
الاول دائما . .خياله يرسم له صوره
لغده ( دكتور صبرى) اختصاص نسا ء .. لا بد أن
سناء ستزورنى ذات يوم .
ويبتسم
لنفسه أذ يرى اسمه مشعا ً بحروف ٍ كهربائيه .. ويفيق ُ من حلمه ِ وخيالـــــــــه
على صوت معلمه ((اسرع يا صبرى اغسل سدر الكنافة
..واغسل بقية الصحون.......
ثم امسح المطبخ )) ..تكاثفت الاوامر فى راسه
,,وفى قلبه سحابة داكنة من الالم..مــــن
الرغبة ِ فى الاحتراق ,,والاختفاء عن عيون
الجميع ...وتكاثفت الدموع فى قلبه تشعره
بأهمية الهواء , ولكن لماذا اليأس هذا عملى
الموقت ,,أجمع النقود ..وارتضى النوم على
أرضية المطبخ ..هذا من اجل جمع النقود للغد ,
ليس امامى سوى العمل لاصبـح نافورة
متدفقة ٍ..( لو يقول لى معلمى اين الصنبور لافتح
الماء على هذه النافورة الميته ..لكـــــن
معلمى صعب وقاسى .. وقل ان يبتسم ...
أسرع الى المطبخ .. مدد سدر الكنافه الفارغ فوق
المجلى .. واسرعت أنامله في سكب الماء الساخن فوقه .. خيّل اليه أن سناء امامه مرة
اخرى تنام على طاولة الفحص فـي
عيادته
ويداه تتلمسان أماكن الالم ..( هنا ..لا يادكتور صبرى هنا )
وعادت بـــــــه
افكاره فى جنون للوراء...
كان طالبا ً ذكيّا فى احدى مدارس بيت لحم
الثانويه ... بيت لحم كانت مدينته ...لم يكن
ابدا سياسيا ً فلا احب َ حربا ً ولا نجح يوماً
فى مادة التاريخ عن فهم ً وقناعة , مجـــرد
حفظ ارقام جرداء فارغةمن الحياة ..فكره ُ مرتبط
ُ دائما فى اهله ..اريد ان ادرس واكمل
تحصيلى الجامعى .. لا بد من اكون طبيباً . كان يعيش في بيت متواضع مع أهله فــــى
ضواحى بيت لحم قرب مخيّم ( الدهيشه ) يرى أمامه
ألمخيم .. ولم يعرف او يفهم لماذا
تكوّن هذا المخيّم .
أحب سناء ..أواه أنه يتذكرها الآن فى اكمل صوره
كأنها امامه ..وجه ُ اسمر ُناعم عيون
صافيةُ عسليّه صافيةُ ..كانت طالبة ً فى احدى
المدارس الثانوية ...يراها كل يوم وهــــو
واقف ينتظر السرفيس ليوصله الى (ساحة المهد) ..
ولعله جلس معها أكثر من مرة ٍ....
وألتقت عيونهما لاكثر من مرة ..لعله التقاء عفوى
..لكنّه كان يحفر في اعماقه بــــــــــلا
رحمة صورة لها...ولعله أوصلها الى ساحة المهد ..
وكم مرة انعطف خلفها فى شــــارع
(رأس افطيس ) يراقبها وهى تنزل درجات مدرستها (
مدرسة راهبات مار يوسف ....)
يوصلها دون ان يدعها تشعر به .. وان كان يحس فى
قرارة نفسه انها قد تلاحظ كثـــــرة
تواجده علر دربها اليومى ..ولكم حدجته بنظراتها
(( وماذا تريد منّى ))
الى ان كان يوما شاهدهامع قريبة له ...اسرعت
اليه قريبته ..وعرفتهّ عليها (( سناء زميلتىفى المدرسه ..ولآول مرة لمس يديها
وكأنه لمح فى عينيها ظل ابتسامة خافتــــــة
وأجنحة لسؤال ( مأذا أأنت مرة اخرى ..ماذا تريد
منّى ) سارا فى الشارع سويـــــــــــة
عرفت عنّه الكثير ..وعرف عنها الاكثر.
ولا يدرى بعدذلك .. لقد أخذ ينتظرها كلَ صباح لا
ليصعد معها بالسرفيس صامتا ..بـل
لينكلم معها عن الكثير من المواضيع .. عن
المدرسه ونشاطاتها .. وعن اهلها واهلــــــه
وقليلا قليلا
اذ بالعلاقة تتعدى حدود الزمالة والصداقة البسيطه ..فاذا يه ينتظرها لحاجة
أكثر من ذلك .. احساسه بالانتظار يتنامى
..وأحساسه بغيابها يدعوه ُ المكثف عنهــــــــا
لقد أحبها .
وسناء شعرت به كأنه شخص غير غريب عنها ..:انه
شىء وحاجة ضروريه لا تجدهـا
في البيت او مجالس اخوتها وصديقاتها شىء ضرورى يجب ان تراه صبيحة
كل يـــوم
قبل الذهاب والاختلاط بالطالبات ,,انها تشعر بشى
ء غريب , دفء غريب ,كأن قلبها
يتدفق بالف اغنية كلما تراه وتسمع صوته ....لقد
احبته .
وذات يوم أقامت مدرستها حفلة بازار خيريه فى
مدرسة (الفرير).. وكانت سناء احــدى
الطالبات العاملات فى الحفلة ... كانت تقف امام
احدى الالعاب بجانب نافورة ماء متدفقة
حين رأته امامها ...أحست انها امام انسان يختلف
تاما عن كل المدعوين .. اندفعت نحوه
فى حرارة .. واندفع اليها كأنه عاشق كان مرتحلا
لاعوام عن غاليته ...أواه انه يتذكـــر
الان جيدا ً كيف نامت يد يها بين يدّيه فى نعومة
ِواستسلام وكيف النقت العيونُ فـــــــــى
حرارة صامته .
((سناء لقد جئت ُ الحفلة من أجلك ))
(( لكم انا سعيدة ..انك جئت يا صبرى ...أنا من
ارسل الدعوة لك .))
جلسا
على حوض النافورة الصغيرة المتدفقة ..(( ان قلبى متدفق فى هواك مثل هذا التدفق ...
اننى احب ياْ سناء .
وابتسمت فى صمت .. وتركت يدها فى كفيه ِ
لتعطيه الجواب.
وأصبح موقف السرفيس موعدا غراميّا كل يوم
..وأصبح حبهما مجال حديث الطالبات ..
كان صبرى يشعر ُ بفارق شاسع بينهما ..الفقر
..والغنى ..لكنّه كان يحلم ُ بغده ِ معهــــا
(( الدكتور صبرى ))
كان حبهما يكبر .. احلامهما تتنامى ... وكم طابت
لهما الجلسات في ظل نافورة المدرسة
الى ان كانت فاجعة ذلك اليوم ..
كان الاربعاء ...وقف بدهشة ِ يراقب ُ أرتال
الدبابات ..وسيارات الجيش الاسرائيلــــــــى
تدخل بيت لحم ...أصوات الرشاشات المجنونة تاكل
حجارة المبانى ...أنه لا يفهم الحرب..لا
يحب السياسة .. لماذا؟؟لماذا؟؟؟
دوى أنفجارُ قريب منّه ..واخر ..واخــر .. أواه انها الصورة ُ التى تفارقه ..كان
بيتـــه ُ
يحترق .. جثةُ ُ والده ملقاة ُ وصراخ ُ أمه يكبر
.. يتعالى ..
وأحس صبرى بدمعة ِ تحرق ُ خدّه ُوسدر الكنافة لا
يزال بين يديه ..مسجسها بكمهــــــه
وأسرع يتابع عمله ..تعم انه يعرف ُ ماذا حدث بعد
ذلك ..
هرب مع جميع الهاربين.. وضاع عنه وجه سناء فى لهيب
الاحتلال .. لم يعد ير احداً او
يسمع اخبار احد .. احساسه بالحياة ينقطع لولا الالم والحزن لآحس أنه ميت .
هام ضائعا فى شوارع (عمان) اجفلنّه النافورة
الموجودة امام الحسينى كثيراً ..جلس أليها كثيراً ..لم يشاهدها ابداً تتدفق بالماء
((آه يا نافورة الامس ..كنت ِ دائما غنية ً بالعطاء...
كان يحس ُ دائما انه مستعد ان يدفع كل حياته من
اجل ان يراها متدفقة ً ...وعمل فــــــى
مطعم للحلويات .. انه يريد بعض النقود من اجل
غده .. ولم يمانع بأى اجر ..فما دمتُ
انام وأكل من المطعم وفيه قلا بأس .
لم يكن قد انتهى من عمله بعد حين سمع صوت معلمه
يقول له(( خذ صحنين من الكنافة
الى قسم العائلات )) ولم يدرساعتها لماذا تراكم
الضيق فوق صدره .. لماذا شعر بكـــل
حزن الهزيمة ِ ياتى اليه ..لماذا جاء الخوف اليه
مرعبا ..مزعجا .
مسح بقايا الماء عن يديّه وانتزع المريلة َ
الخضراء وتناول صحنّى الكنافة وصعد الــى
قسم العائلات في بطء وحزن ...
كان وجه الشاب متجها ً اليه ..ووجه الفتاة الى
الشارع .. خيّل اليه أول وهلة أنه رأى
خصلات الشعر هذه من قبل ..ورأى مثل انتصاب هذه
القامة ..تقدم فى بطء سمـــــــع
ضحكتها الناعمة ... (لماذا كل الحزن يداهمنى
..اشعر كأن عاصفة ً من الخــــــــــــوف
تبتلعنى ... لقد سمع هذه الضحكة من قبل ...
ايمكن ؟ ايمكن؟؟
أنحنى ليضع الصمون على الطاولة ..والتقت عيناه
بعينها (( يا ألهى سنا ء ) لم يتمالك
نفسه .. سقطت الصحون من يديه ..ورأى الذهول
والدهشة أمامه .. شوارع بيت لحــم
الحب .. نافورة الحب .. الدبابات .. الخوف
والهزيمة .. واحلامه الميتة .. وهذه هــــى
سناء مع رجل اخر ..أسرع ألى الهرب ..وكان صوتها
عاليا مرتعشا وهى تنادى (صبرى..صبرى ) ..
لكنّه كان اسرع من صوتها ..ومن ذهول معلمه ..ونظراته الحيرى...اسرع راكضا ً فى
الشوارع .. يريد ان يختفى ..ان يهرب الى مكان مظلـــم
بعيد ٍ عن عيون الجميع .
كان
يركض في الشوارع كأنه مطارد من الشرطة ..يركض في وجع وانهيار داخلى
عنيف ونزيف رجولى هائل ..وفجأة وجد نفسه فى ساحة
الجامع الحسينّى وامام تلـــك
النافورة الميته ..ركض نحوها .. أذهلته مجموعة
من العمال تنتزع بلاطها الرخامــــى
تحطمّه .. ماذا تفعلون ايها المجانين... ارتمى
فى أعياء أمامهم .....( كنتُ اتوقعُ كـــــل
شىء الا ان تموت هذه النافورة الى الابد...وحين
طارده الخوف مرة أخرى كانـــــــت
سنتء تقف ُ رأسة شاحبة ً الوجه ..باكية َ
العينين قائلة ً(( لآننى وجدتك .. يا وجهـــــى
الضائع تهربُ منّى .. اننى ابحثُ عنك منذ زمن ٍ
انا واخى ..انا ام انس أبداً وجهــــــك
أحبك يا صبرى .. يا وجهى الضائع ))
لم يقل كلمةًً ً واحدة ً ..دفن وجهه المتعب فى
صدرها ..تنهد فى الم وقال يصوتٍ خافت
(( حين احببتك ..وصارحتك بالحب .. كانت نافورة ُ
ما تتدفق ُ , ولكن هنا حتى نافورة
الجامع ميتة ... وضعت راسه المتعب على صدرها
..بكت بصمت .. واجفلها صـــوت
العمال يصرخ بهما قائلآ ((انهضا ..نريد ان نكمل
انتزاع هذه الحجيرات من وســــــط
الساحه .
وانغرست المعاول فى جثة النافورة ..بينما كانت سناء تبكى على صـــــــدر
صبرى مرةً ً .. وعلى صدر أخيها الصامت مرة اخرى
انتهت
د