كان هناك أحد الحكماء، يعيش مع أولاده الثلاثة، يربيهم على فضائل الأخلاق، ومحاسن العادات، فلما كبرت سنه، واشتدّ عليه المرض، ولمـّا شعر أنّ أجله قد اقترب؛ أراد أن يوصي أولاده الثلاثة بوصية جامعة، يودعهم فيها خلاصة تجربته في الحياة، فنادى أولاده الثلاثة؛ فتجمعوا ووقفوا بجوار فراشه يتطلعون إليه متألمين باكين... فقال لهم:
لا تبكوا يا أولادي، ولا تجزعوا، ولا تتألموا، فأنا أريدكم رجالًا من بعدي، هيـا احضروا لي بسرعة حزمة من العصى...
ظن الأولاد أن والدهم يحتاجها لأمر مهم؛ فأسرعوا يجمعون أعوادًا يابسة حتى جمعوا عددًا منها، قدموا العصى لوالدهم وهوينظر إليهم بحب ووداعة فلما صارت الحزمة بين يديه طلب من أحدهم أن يكسرها فقال له:
خذ هذه واكسرها.
حاول الابن الأول، فلم يستطع.
أعطاها للثاني، ثم قال له جرّب أنت.
جرَّب الثاني، فلم يستطع.
فأعطاها للثالث وقال: جاء دورك.
حاول الثالث فلم يستطع.
فقال الأب العجوز: ناولوها لي.
فأخذها ففك رباطها، وناول أكبرهم واحدة من العصي فاستطاع أن يكسرها بسهولة، ثم ناول ابنه الثاني عصا أخرى فكسرها، وناول الأصغر واحدة أخرى من الحزمة فكسرها كذلك.
ابتسم الأب ابتسامة مشرقة، ثم أقبل على أولاده يعلمهم خلاصة الدرس
فقال: "ها قد رأيتم أنّ أحدًا منكم لم يستطع كسر الحزمة بكاملها، لكنّ كلّ واحد منكم استطاع كسر عصا واحدة بسهولة"
وهكذا يا أبنائي الأعزاء، باجتماعكم سويا، وبتعاونكم على تحقيق أهدافكم، تستطيعون تجاوز أعتى الصعاب، دون أن تكسركم العوائق والعقبات.
هذا المثال الذي ضربه الحكيم لأولاده يبين لنا هذا الدرس العظيم، أن الاتحاد قوة، وأن الاجتماع الصحيح على الأهداف لابد أن يؤدي للإنجاز والنجاح العظيم، فشتان شتان ما بين قوة العصى وهي منفردة، وما بين قوتها إذا انضمت إلى أخواتها:
تأبي السهام إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا
فهكذا العمل مع الآخرين، يضيف إلى قوة المرء قوى، ويهديه إلى جوار مهاراته مهارات، و يضم إلى نجاحاته نجاحات.
بل إن الجماعية هي فطرة الله تعالى في كل مخلوقاته، (فلو نظر الإنسان إلى قطعان الماشية، لرآها تنقاد خلف واحد منها، ولو أبصر أسراب السمك في الماء، والطيور في الهواء لرآها زرافات وأسرابا، اقتضاء لتطبيق حكمة الله تعالى، لأن مصالحها لا تتم إلا بهذا الاجتماع، فهو الذي يشكل منها قوة تحمي به نفسها، وبالجمع تتآلف، وبه تتم مصالحها من إحضار القوت، وأداء العمل، وتكامل المهمات، وفوق ذلك حفظ النسل والنوع، وقد وجه الله تعالى أنظار البشر للتفكر في ممالك النحل والنمل، وكيف تجري سنته في إجراء مصالحها، وهي في جماعاتها وأسرابها.
وما تجري به سنة الله تعالى في هذه الخلائق تجري على البشر بكل أجناسهم ومذاهبهم، إذ لابد لهم من التعاون والتناصر) من أجل إنجاز أهدافهم، وتحقيق مصالحهم كذلك.
ضرورة عصرية
وظل الإنسان على مر العصور مدركًا لأهمية الجماعية، فترجمت في صور مختلفة على مر العصور، من القبائل، إلى القرى، إلى المدن، إلى الدول، إلى التحالفات الدولية التي نراها في عالمنا اليوم.
وقد التفتت المنظمات والمؤسسات إلى أهمية الجماعية في العمل، وأثر العمل بروح الفريق الواحد، وضرورة تكوين فرق العمل، مما أحدث نهضة إدارية عالمية جديدة، كان لها هذا الأثر الذي نراه اليوم من ارتفاع في معايير الجودة، والكفاءة، والإنتاجية، بصورة كبيرة ما كانت لتصل لها دون أن ترسخ في نفوس أفرادها مهارات فن الجماعية.
بل تلك النهضة العلمية الجبارة التي نراها اليوم، ترجع بشكل كبير إلى التخلي عن الأسلوب الفردي في الدراسة والبحث والاتجاه إلى الدراسة الجماعية وفرق البحث العلمي.
حتى أن سر ذلك الإنجاز العملي الكبير الذي حققه الدكتور زويل من اكتشافه لزمن الفيمتوثانية، واستحق من أجله جائزة نوبل في العلوم، تحقق بعد فضل الله تعالى، بجهد فريق عمل مكون من ثلاثين فرد يعملون معه بجد واجتهاد حتى وصلوا إلى هذا الانجاز الرائع.
ولا عجب في ذلك، فإنه "عندما تجتمع العقول العظيمة معًا وتفكر معًا فليس هناك حدود لما يمكن تحقيقه عندئذ".
إنه مما لا شك فيه: أن لغة اليوم هي لغة الجماعية ، وإذا أردنا أن نقدم شيئًا مفيدًا حقيقيًا لأمتنا ووطننا؛ فلا بديل عن الجماعية، وإذا أردت أن تصنع من منظمتك أومؤسستك مؤسسة ناجحة؛ فلا بديل عن إضفاء روح الفريق داخلها .
فهيا معًا أيها المؤمن، نصحبك في هذه الرحلة السريعة نتعرف من خلالها على أهمية الجماعية في العمل، وكيف يحقق الشخص التوازن بين الفردية والجماعية؟ وما هي فرق العمل وكيفية تكوينها؟ وكيف يتم إدارتها؟ حتى نحقق إنجازا عظيما لأنفسنا وأمتنا التي تعقد علينا الآمال في الخروج من هذه الكبوة التي تمر بها، لتعود من جديد إلى زمام القيادة والريادة، وتحقق رسالتها التي جعلها الله من أجلها خير أمة أخرجت للناس(وكذلك جعلناكم أمة وسطا، لتكونوا شهداء على الناس).