إن المأساة التي يعانيها شعب غزة المسلم لهي حدث الساعة الأعظم، فما يحل بأهلها من الدمار والقتل لهو كارثة إنسانية بكل المقاييس، فمن منطلق وشيجة الإيمان التي تعلو كل رابطة والتي قررها القرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، كان لزامًا على جميع الأوساط الإسلامية أن ترقى لمستوى هذا الحدث وتتفاعل معه بما يتناسب مع حجمه، وإن من هذه الأوساط المعنية، وسط الحياة الزوجية، تلك التي تقوم على المشاركة ووحدة الاهتمامات، آن لها أن تنهض باعتبارها وحدة اجتماعية للتفاعل مع القضية، وتجعلها محور اهتماماتها في هذه الفترة، فهذا وقت إظهار مشاعر الأخوة الإسلامية التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [متفق عليه].
تجنيد الوجدان:
وثمة شعور لا بد وأن يراود كل زوجين، ماذا لو فقد الزوج حياته، ماذا يعني ذلك للزوجة، وإذا فقدت الزوجة حياتها، ماذا يعني ذلك للزوج، وماذا يعني هذا أو ذاك لمحيط الأسرة بصفة عامة، إن هذا التخيل يتجسد كحقيقة في واقع كل أسرة في غزة، هو الحدث المتوقع في كل لحظة.
إن كان يعيش الزوجان في كل مكان غير غزة وأخواتها في أمان، ينعمان معًا بروابط الحياة الزوجية، ويسعى كل منهما لإسعاد الآخر، ويخططان سويًا من أجل حياة أفضل في هدوء وسكينة، همومهما متشعبة ما بين إشباع عاطفي وجسدي، وبين خيال سابح في المستقبل المشرق، فإن كل زوجين في غزة المنكوبة ليس لهما إلا همًا واحدًا: الفرار من الموت، لا أعين تنام، ولا قلوب تهدأ، ولا خيال ترتسم على صفحته صور مشرقة، يعيشان معًا في حالة توديع مستمر.
إن انصراف الشعور إلى غير هذه القضية في الوقت الحالي وتجواله في مناحي الحياة بمثابة خيانة لهذا الشعب المسلم، إذ كيف يتصور أن يعاني هذا الشعب ما يعانيه بينما يكون إخوانهم الذين يتقلبون في نعمة الأمن في لهو وتعاطي مع سبل الراحة والرفاهية ولا تشغل مأساة غزة حيزًا يذكر في بؤرة شعورهم؟!
إن التفاعل الوجداني هو أول واجب على كل زوجين في هذه المرحلة، وهذا التفاعل إنما يختلف من شخص لآخر بحسب قوة شعوره بالانتماء لهذا الدين، كلما عظم الانتماء كلما توجه ذلك الشعور إلى مشاكل المسلمين الذين يرتبط معهم برباط العقيدة، وكذلك يزيد ذلك الشعور بحسب درجة التزام المرء بدينه، وحتى يصل الزوجان إلى ذلك الشعور لا بد من المتابعة الدقيقة لأحداث غزة، ساعة بساعة عبر وسائل الإعلام المختلفة التي تراعي الدقة والموضوعية في موادها، كل ذلك من أجل أن يعيش الزوجان أجواء القضية وينصهرون في بوتقتها.
وقد يتعجب القارئ إذ يراني أطرق موضوع التفاعل الوجداني وأركز عليه مع كونه مجرد شعور، أقول: إن هذا التفاعل الوجداني الذي ينتشر كالعدوى بين فئات المجتمع من قيمته أنه يجنب تهميش هذه القضية في المجتمع المسلم، وكون هذا التفاعل والاهتمام النظري أو المعنوي قد أصبح اتجاهًا عامًا في المجتمع، فهذا يضمن عدم موت القضية في حس الناس، ومن ناحية أخرى: أن هذا التفاعل الوجداني هو المحرك الفعلي لجوارح المرء، هو الأساس الذي ينطلق منه الباذلون من أجل مأساة غزة.
ولله در أويس القرني سيد التابعين الذي عبر عن شعوره بإخوانه المسلمين باعتذار: "اللهم إني أعتذر إليك من كل كبدٍ جائعةٍ وجسدٍ عارٍ وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني" .
قدرة الصلاح الحاسمة:
أعلم أن الكثيرين إذا ما قرأوا حلولًا لأي مشكلة تتضمن ذكر أسباب الدعاء والتوكل والطاعة وتجنب المعاصي.. وغيرها من أسباب إيمانية، فإنهم يتجاوزون تلك السطور إلى ما بعدها، ويزهدون في تلك السهام الإيمانية.
والحق أننا لا بد وأن يكون لنا منهج راشد في التعامل مع الأسباب، فلا يقتصر الأمر على النصح بالدعاء والإخلاص ونحوه، إنما لا بد من تقديم حلول عملية بجانب هذه الأسباب الإيمانية، وفق منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يربط دائمًا بين الإثنين، وهذا واضح جلي في جميع شأنه صلى الله عليه وسلم، ومن جانب آخر لا بد وأن ندرك أهمية الإيمانيات في حل جميع المشكلات، على اعتبار أن الإيمان هو المكون الأساسي لشخصياتنا الإسلامية، فلا ننجرف نحو الاقتصار على الماديات فرارًا من نقد الفارين من تراثهم الإسلامي إلى الغربي، فإن الدعاء بإخلاص سبب أساس في نصرة الأمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل تنصرون إلا بضعفائكم ؟ بدعوتهم و إخلاصهم))[صححه الألباني].
ولقد أدرك الفاروق عمر عظم تأثير جانب الطاعة في تحقيق النصر فكان ينصح جنده بالتوبة قبل لقاء العدو، فأخذها الفضيل بين عياض فكان يقول: (عليكم بالتوبة فإنها ترد عنكم ما لا ترده السيوف).
فلذلك لا بديل لكل زوجين أرادا نصرة غزة عن توبة نصوح، ودعاء من القلوب بنصرة أهلها، وإنَّ ركعتين تؤديان بخشوع في جوف الليل، يعمر سجودها حرارة الدعاء، لهي والله سلاح لا يقهر في مواجهة هذا العدوان الغاشم.
أثر على أرض الواقع:
فلم يبق سوى النصرة بالأسباب المادية التي لا بد وأن تسير جنبًا إلى جنب مع الأسباب الإيمانية، ومن الجهل بدين الله والسنن الربانية أن نهمل هذه الأسباب أو نعطلها، ويكون حالنا كحال المتصوفة حال الحملة الفرنسية عندما واجهوا الحملة بأن قبعوا في زواياهم ينشدون أذكارهم المبتدعة ليندفع بها الفرنجة.ويمكننا أن نجمل هذه الأسباب في سطور:
1- الدعم المادي بالتبرع لصالح شعب غزة عن طريق لجان الإغاثة وعدم التقاعس تحت سيطرة هاجس عدم وصولها، فإنه بعد التحري عن مصداقية الهيئة قدر المستطاع يكون المرء قد فعل ما هو واجب فعله، ولا بد من البذل وعدم التعلل بضيق اليد، ولو أدى ذلك إلى التقليل من النفقة في البيت.
2- إذا كانت ثم حملات للتبرع بالدم فيندب المشاركة فيها، حيث أن عدد الجرحى والمصابين بلغ أعدادًا هائلة.
3- إرسال إيميلات للمسئولين وصانعي القرار بالتحرك الإيجابي تجاه مأساة غزة، حتى ولو غلب على الظن عدم الجدوى، فإنه لا بد من التخلص من السلبية التي غرقنا فيها.
4- نشر القضية بين الناس، بحيث تكون هي شغلهم الشاغل، فمن شأن اتخاذ المجتمع بأسره مسارًا واحدًا أن يخلق له وعيًا يجعل له وزنًا مهمًا لدى صانعي القرار.
5- إبراز الراية الإسلامية وعقيدة الولاء والبراء حتى يتوحد الناس عليها، بالطرق على حقوق الأخوة الإسلامية والصراع العقدي مع الصهاينة.
6- المشاركة بالآراء والتحليلات والتعليقات عبر وسائل الإعلام حتى تكون قضية غزة همًا يشترك فيه الجميع، مما يضمن عدم وصولها إلى منطقة باردة في حس الناس الذين سرعان ما تنطفيء جذوة حماستهم.
7- إذا كانت ثم مظاهرات سلمية تعبر عن الرأي، فيحذر المتظاهرون من القيام بأي عمليات تخريب فإن ذلك قد يؤدي لعرقلة المسيرات السلمية بعد ذلك.
8- يقوم الزوجان بإشراك جميع الأبناء والأهل والأقارب معهما في الاهتمام بهذه القضية.
وبالطبع سيعلق القارئ بقوله: وهل يكفي هذا في نصرة غزة؟ فنجيب بأن المرء إن قام بما في وسعه ولو كان قليلًا ضعيف التأثير، خير له من الوقوف بغير حراك ينظر إلى الصغير باحتقار ولمّا يفعله.
وختامًا: وإن كان الخطاب قد فقد في أحيان كثيرة بوصلته نحو الزوجين، إلا أنهما وحدة اجتماعية هامة في الكيان العام المخاطب، فلا بد من رؤية مشتركة وموقف موحد إيجابي من كل زوجين تجاه هذه الأزمة، ونسأل الله تعالى أن يفرج كرب إخواننا في غزة وسائر بلاد المسلمين.