هدير الضمير
طابون أمي ليس للبيع!!
ياسين السعدي
الطابون، كما نعرفه نحن الفلاحين؛ وخصوصاً كبار السن منا، هو اختراع حضاري قديم، يستعمل لتجهيز الخبز وتحضير الطبخ. ولا يعرف بالضبط أين بدأ ومن أين أتى. لكنه كان موجوداً في القرى عندنا في فلسطين، قبل النكبة وبعد النكسة. ولا يزال موجوداً حتى اليوم في بعض القرى والتجمعات السكانية التي تعتمد على الزراعة، واستعمال مشتقاتها ومخلفات الحيوانات، لتزويده بالوقود.
وبالرغم من زحزحة مكانته في حياة الأسرة الفلاحية، وحلول المخترعات الحديثة محله من الأفران على اختلاف أنواعها؛ إلاّ أن اسم الطابون عاد ليأخذ مكانته مرة أخرى ويحتل مكانه؛ حتى في الإعلانات عن المطاعم والمخابز؛ كأنه يردد القول الشعبي المأثور: (عتيقك عتيقك، لا عاش كل جديد)، وذلك في الحقيقة بعدما تبين علمياً وعملياً؛ أن الطبخ في الطابون يعطيه نكهة خاصة؛ لأنه يوزع الحرارة من جميع الجهات بقوة حرارية متساوية، لا تتوفر في هذه الطريقة، حتى في أكثر أدوات الطبخ والخبز الحديثة تطوراً. ولا يتسع المقال للحديث عن (صناعة الطوابين)؛ بالرغم من أن جيل أمي كانت الواحدة منهن تعتبر (خبيرة) في هذا المجال: صناعةً واستعمالاً.
المنتدى الشتوي للنساء
وليس ذلك استهانة بمكانة المرأة؛ كما قد يظن بعض من يسمون بأنصار المرأة. ولكنها الحقيقة؛ حيث كانت نساء الحي، والجارات منهن خاصة، يتحلقن جلوساً على حجارة يتخذنها كالكراسي حول (الجرن) في البناء المتواضع الذي يوضع فيه الطابون، في فصل الشتاء خاصة؛ طلباً للدفء ومنتدى يدور الحديث فيه في كل الأمور التي تهم مجتمع القرية الصغير.
كانت النسوة يتحدثن حتى في المواضيع السياسية. وأذكر جيداً أنني كنت أعلق مازحاً مع البعض من ذوات القربى، حول حديثهن عن جولات جونار يارنج؛ مبعوث الأمم المتحدة الذي كلفته المنظمة الدولية بمتابعة تنفيذ القرار رقم 242، الذي صدر بعد النكسة عام 1967م؛ مع أطراف النزاع في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الحديث عما كانت تبثه الإذاعات، وخصوصاً عن حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية والفدائيين في الضفة الشرقية، وغيرها من تصريحات الزعماء وخطبهم، وخصوصاً الرئيس المصري المرحوم، جمال عبد الناصر، وغير ذلك من مناقشات في (المنتدى الطابوني) العتيد.
شراكة الطابون
وهي ضرورة لا بد منها لضمان استمراره، وحسن استغلاله، والقدرة على مواصلة تزويده بما يحتاجه من الوقود والصيانة بكل صورها. ولذلك كانت النسوة يشتركن بالطابون؛ بحيث تديره واحدة منهن كل يوم. وعندما انتقلت أسرتي من قريتنا (المزار)، في أعلى الجبل شمال شرق جنين، إلى (نورس)، بكسر الراء، شاركت أمي جارتنا أم أحمد في الطابون. وأحمد هو الأستاذ أحمد الخطيب، صديقي منذ الطفولة في بدايات الأربعينيات من القرن الماضي حتى اليوم؛ حيث شاءت الظروف أن نظل على تواصل منذ كنا نعيش أطفالاً نلعب في أزقة نورس و (حواكيرها)، حتى صرنا لاجئين؛ حيث سكنت أسرته في مخيم جنين، بينما كنا نعيش في قرية (عَرَبّونة) على الحدود قرب قريتنا الأم (المزار) التي أخرجنا منها وصرنا لاجئين.
وقد عاد تواصلنا من جديد؛ حين دخلت مدرسة وكالة الغوث في جنين، بعد خمس سنوات من النكبة، والتقينا طلاباً صغاراً، وتخرجنا معاً شباباً في التوجيهي، قبل أربعين عاماً بالضبط.
حتى عندما حصلنا على الوظيفة، عملنا معلميْن في منطقة رام الله، وانتقلنا معاً بعد النكسة إلى جنين، والتقينا في نفس المدرسة، وإن كنت قد طلبت التقاعد قبله. ونلتقي كل يوم تقريباً في مكتب مطبعتي الذي تقع في مركز المدينة؛ حيث نتبادل الحديث، ونعرج على الذكريات العزيزة على قلوب من يصيرون في مثل أعمارنا.
خلافنا الوحيد
لم أسهب في هذه التفاصيل التي قد يظن البعض أنها (هايفة) من أجل الثرثرة، كما كان يحدث في (المنتدى الطابوني) القديم. لكن كل؛ ذلك لكي أتحدث عن خلافي مع صديق الطفولة و(الولدنة) والشباب والكهولة. هذا الخلاف سببه ما يطرح اليوم من قضايا مصيرية حول التسوية النهائية من حق العودة، والتعويضات وتوطين اللاجئين، وغير ذلك من المسميات.
يقول صديقي العزيز، أبو غيث، مازحاً ومعلقاً بسخرية مريرة، بأنه يؤيد رأي بعض السياسيين الفلسطينيين الذين أعلنوا رسمياً حسب (وثيقة جنيف)، غير الرسمية وغير الملزمة كما يزعمون؛ بأن حق العودة أمر مشكوك فيه، وأنه مع مبدأ التعويضات، حيث نشأ واقع جديد خلال أكثر من نصف قرن من الزمان مضى على قيام إسرائيل.
كنت أجيبه بكل ثقة وإصرار؛ بأن حقنا في فلسطين ثابت، لا يتأثر بتقادم الزمن، وبأننا لا يجب أن نفرط بذرة تراب واحدة من فلسطين؛ لأنها وطن الآباء ومثوى الأجداد وموئل الأولاد وملجأ الأحفاد، وحقنا ثابت حسب قرارات (الشرعية الدولية).
كنت أجيبه ساخراً من واقعنا المر، ووضعنا المرير: يمكنك يا صديقي أن تتنازل عن حق أمك، وحصتها في شراكة الطابون في نورس. أما أنا فلن أتنازل عن أرضنا الواسعة المغتصبة في مرج ابن عامر من أرض (المزار) المدمرة.
بل إنني متمسك بحق العودة، وأرفض مبدأ التعويضات. فليفاوض المفاوضون، وليوقّع الموقِّعون، فلن أتنازل عن حصة أمي في الطابون في نورس؛ لأن: (طابون أمي ليس للبيع)!!
نشرت في جريدة القدس يوم الإثنين بتاريخ 29\12\2003م؛ صفحة 19