إعداد: أحمد دعدوش
"وجدتها".. صرخ أرخميدس بهذه الكلمة فجأة وهو يغتسل في حوض السباحة في أثينا القديمة، ثم خرج يجري باتجاه منزله ليسجل فكرته الإبداعية قبل أن تفلت من ذاكرته.. اكتشف حينها وفي لحظة إلهام نادرة قانون الإزاحة في الفيزياء، وما زال تاريخ العلم مديناً له بتلك اللحظة المثيرة.
يمتلئ تاريخ العلم بالأمثلة المشابهة لمثال أرخميدس، ففي إحدى لحظات الإلهام المماثلة ارتبط في ذهن الحسن بن الهيثم انعكاس الضوء بسقوط كرة مرنة على سطح أملس، ولما قام بتحليل ارتداد الكرة، وضع قانون الانعكاس الذي ما زال قائماً حتى اليوم.
وفي لحظة أخرى، وفي حين كان إسحق نيوتن جالساً تحت شجرة تفاح، لفت نظره سقوط تفاحة على الأرض، فربط على الفور بين جذب الأرض للتفاحة وجذبها للقمر، ووضع بذلك قانون الجاذبية للأجسام الهائلة الحجم.
أما اكتشاف ثبات سرعة الضوء في الفيزياء وما ينتج عنه، والذي مهّدت له معادلات ماكسويل في الكهرومغناطيسية العامة التي تركت العلماء في حيرة أمام تناقضات فيزياء نيوتن، فلم يتمكن هنري بوان كارييه من وضع حل رياضي له بالرغم من بذل كثير من الجهد، لكنه ما أن تخلى عنه مؤقتاً وذهب في رحلة جيولوجية إلى مدينة "كان" الفرنسية، وفي اللحظة التي وضع فيها قدمه على درجة الحافلة، لمعت الفكرة فجأة في ذهنه دون سابق إنذار، وكانت مقدمة لتطبيقات رياضية أخرى مهمة.
ما هو الإلهام؟
تحدث الفيلسوف اليوناني أفلاطون عن عالم مفارق سمّاه عالم المُـثُل، ورأى أن عالمنا المادي ليس إلا مظاهر حسية وهمية، أما الحقيقة فتقبع في عالم المُثل غير الحسي، وهو مصدر النفس والعقل، ثم ذهب إلى أن الإبداع الفني ليس إلا إلهاماً من ذلك العالم، فالفنان إنسان موهوب خصّته الآلهة بنعمة الكشف والانفتاح على ذلك العالم الخفي، لذا فإن العبقرية تحدث فجأة دون تدخل من العقل، والإبداع يحتاج إلى لحظة الإلهام التي تومض في العقل بدون فكر ولا إرادة.
اختلف الفلاسفة من بعد أفلاطون بين مؤيد ومعارض. أما في تاريخنا الإسلامي، فقد برز اسم الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري الذي اتخذ منهجاً مستقلاً، إذ كان يرى أن العقل يقف عند حدوده التي وضعها الله سبحانه له، ثم ينتظر لحظة الإشراق التي يقذفها الله في النفس الباحثة عن الحقيقة.
كيف تحدث لحظة الإلهام؟
بالرغم من اعتراف المبدعين أن كثيراً من إنجازاتهم قد ظهر في أذهانهم بصورة غير إرادية، إلا أنهم في الواقع يقرون بأن لحظات الإلهام هذه لا تظهر إلا بعد اشتغال دؤوب بالفكرة التي تملأ عقولهم، إذ يقول نيوتن:
"إنني أجعل موضوع بحثي نصب عيني دائماً، وأنتظر الومضة الأولى التي تظهر بهدوء، ثم تتحول بالتدريج إلى شعاع شديد الوضوح.. إن البحث عن حقيقة –غالباً- يكشف لي عن حقائق أخرى غيرها دون أن أفكر فيها على الإطلاق، فالاكتشاف يقود إلى اكتشاف آخر، وما أشد دهشتنا من ملاحظة كثير من النتائج التي تتولد عن هذا الاكتشاف الجديد بعد إخضاعه للبحث والتمحيص".
ويؤكد الطبيب الفرنسي لويس باستير أن الفكرة هي البنت الشرعية للحاجة ولكنّ المصادفة لا تظهر إلا للأذهان المستعدة، ويوافقه في ذلك توماس أديسون الذي يرى أن واحداً بالمائة فقط من حجم نجاحه يعود إلى الإلهام، بينما يعود الباقي إلى الجهد والبحث.
أما الموسيقي المعروف تشايكوفسكي فكانت لديه طريقته الخاصة في اقتناص هذه اللحظات، إذ يقول:
"عندما كنت أخلو بنفسي وأشعر بالسعادة، وعندما أكون مسافراً أو أتمشى بعد تناول وجبة جيدة، أو في الليل حين يجافيني النوم، تكون هذه الحالات هي أفضل الحالات التي تتدفق فيها أفكاري بأغزر ما يكون.. لست أعرف من أين ولا كيف تجيء! فليس باستطاعتي السيطرة عليها.. كل هذا يؤجج نار روحي ويجعل الفكرة تكبر ذاتياً بشرط ألا أكون مضطرباً، وهكذا تصبح الأفكار منظمة ومحددة، ومهما تزاحمت هذه الأفكار فإنها تقف كاملة ناضجة في ذهني, بحيث يمكنني أن أتفحصها كما أتفحص صورة نقية أو تمثالاً جميلاً بنظرة واحدة.. لا أنسى أبداً ما أنتجه بهذه الطريقة، وأرى أن هذا أفضل شيء أشكر الله على أن منحني إياه، وحين أبدأ في كتابة أفكاري فإنني آخذ من مخزون ذاكرتي.. عندما تكون التربة جاهزة فإن البذور تنبت بقوة وسرعة غير عاديتين".
ثم يقول:
"لو استمرت هذه الحالة العقلية والروحية التي نسميها الإلهام دون انقطاع, لما بقي فنان على قيد الحياة, فقوتها تقطع الأوتار وتحطم الآلات".
كيف نقتنصها؟
لا يمكن للحظة الإلهام أن تأتي صدفة دون استعداد أو تحضير، فهي نتيجة لجهد كبير يجب أن يشغل بال المبدع في ليله ونهاره، وفي يقظته ونومه.. إلا أن الاستعداد لها قد يكون ممكناً.
إذا كنت عزيزي القارئ مهتماً بالبحث عن فكرة ما على نحو كاف، فتأكد من أنك بإذن الله ستجدها يوماً ما، وتذكر أن إخلاص النية وتجريد النفس والتوجه إلى الله تعالى بصدق سيزيد من فرص الإشراق الذي تنتظره.
الإلهام قد لا يأتي بفكرة جديدة مائة بالمائة، فهو يستمد قوته من الجهد الذي تبذله في التفكير المضني والعمل الشاق، وعندما تأتي لحظة الإلهام فإن الفكرة تبدو غالباً في إطار جديد، وقد تربط بين ظاهرة مألوفة لديك وبين المشكلة التي تبحث عن حل لها، بالرغم من أن ذلك قد لا يحدث عندما تُعمل ذهنك في التفكير أياماً أو شهوراً طويلة.
عندما يحدث الإلهام فإنه لا يحتاج إلى المنطق، ولكنه ليس مناقضاً له على الإطلاق، لذا عليك أن تكون جاهزاً في اللحظة التي تشرق فيها نفسك للتأكد من صحة أفكارك الإبداعية، وتسجيلها قبل أن تفلت منك.
وللمساعدة على اقتناص هذه اللحظات النادرة، إليك هذه النصائح:
1. حدد المشكلة التي تبحث عن حلها بدقة.
2. اقرأ عن كل الأفكار والمعلومات المساعدة، وحاول أن تكوّن تراكماً معرفياً يساعدك على التفكير.
3. اقرأ واسأل عن التجارب التي تماثل تجارب الآخرين.
4. أعمل فكرك في البحث والتمحيص باستمرار.
5. فكر بطريقة منهجية.. وعلى سبيل المثال، اكتب مشكلتك ثم أطلق العنان لمخيلتك في البحث عن الحلول مهما كانت بعيدة، ثم اشطب كل ما يتأكد لك استحالته.
6. لا تفرض على عقلك أو خيالك أي رقابة أو وصاية ما دام التفكير طور التجربة، وأجّل الشطب والحذف حتى حين التأكد من صحة الأفكار أو خطئها.
7. روّح عن نفسك بالخروج إلى الطبيعة والتوحد معها، ولا تنس لحظات الصفاء الروحي في أوقات العبادة.
8. إذا تأخرت لحظات الإلهام فلا تيأس، بل اشغل نفسك بأمور أخرى، وكن واثقاً من أن اللاوعْيَ ما زال يعمل في أعماقك بحثاً عن الحل، ولكن هذا لا يعني تجاهل المشكلة بالكلية.
9. حافظ على روحك المعنوية في أعلى مستوياتها، فالإلهام لا يشرق –عادةً- في لحظات اليأس أو الإحباط.
المراجع
- وائل الأتاسي، الشعور وتجلياته، وزارة الثقافة السورية، 2002.
- روجر بنروز، العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، دار طلاس.
- عباس نوري خضير، سيكولوجية الإبداع في الفن.