بقلم: د. مصطفى شلبي
وبعد أن قضى موسى عليه السلام الأجل عشر سنوات وفاءً لما تعاهد عليه مع شعيب عليه السلام بدأ رحلة العودة مرةً ثانيةً إلى مصر، يقول الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)﴾ (القصص).
إذًا لما أراد موسى عليه السلام العودة اصطحب معه أهله، والأهل تشمل الزوجة والأولاد، فاصطحبها معه للعودة إلى موطنه مصر، وفي هذا دلالة لما يجب أن تكون عليه العلاقة الزوجية الشرعية من ارتباط مصيري بين الزوجين.. الزوجة تجعل مصيرها وسعادتها في سعادة زوجها، وكذلك الزوج.
أما الزوجة التي تؤْثِر البقاء في بيت أبيها على بيت زوجها، وتغادر بيت الزوجية لأتفه الأسباب وأهونها؛ فلا تدرك قداسة هذه العلاقة، والتي سمَّاها الله عز وجل بالميثاق الغليظ ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)﴾ (النساء: من الآية 21)، فما أحوج أمثال هذه الزوجة إلى مراجعة نفسها كي تعلم حقيقة هذه العلاقة وقداستها الشرعية، وأنه ليس لها بعد الله عز وجل إلا زوجها ومملكتها؛ أي بيت الزوجية.
خرج موسى عليه السلام ليلاً في ليلة شاتية باردة كما يدل على ذلك أنسه بالنار لما رآها، وها هو يضلُّ الطريق ويرى زوجته تعاني من شدة البرد، فلما رأى النار ﴿ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ وهنا وقفة مع قول موسى عليه السلام ﴿امكُثُوا﴾ إن القوامة تستلزم من الرجل أن يقوم بأعباء بيت الزوجية.. المادية والمعنوية.
أين هذا من هؤلاء الرجال الذين يمكثون في بيوتهم ويتركون زوجاتهم يخرجن للعمل للإنفاق وتلبية احتياجات بيت الزوجية دونما عذر لدى الرجل؟!.. أين هذا ممن يمتلكون الصحة والمال ولكنهم يبخلون بأموالهم في النفقة على زوجاتهم وأولادهم؟!
يقول موسى عليه السلام لأهله ﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾.. ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ فهناك مشكلة، وهي أنهم ضلُّوا الطريق، مَن الذي يتحمَّل عبء حل المشكلة؟.. إنه الزوج.
ثم يعطينا موسى ولكل الأزواج درسًا عظيمًا في المشاعر الجياشة والعواطف الزوجية.. ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي تستدفئون.
إن موسى عليه السلام في هذا الجو البارد ينظر إلى زوجته وهي تعاني من البرد، فتتحرك مشاعره ويتألم لألمها، ويتمنَّى لو استطاع أن يُزيل عنها هذا الألم، فلما رأى النار وجد بغيته التي يستطيع بها تخفيف ما بزوجته من ألم البرد.
أين نحن من هذه العواطف والمشاعر الجياشة؛ التي إن عبَّرت عن شيء فإنما تعبِّر عن حب كبير يملأ قلب موسى عليه السلام تجاه زوجته، هذا الحب الذي تفتقده بيوتنا في هذه الأيام؛ مما يؤدي إلى كثير من المشكلات الأسرية وتفاقمها.
إن السعادة الأسرية والاستقرار الأسري لن يعود إلى بيوتنا إلا بأن يرفرف الحب في أجواء الأسرة.. يمتلئ قلب الزوج حبًّا لزوجته، وكذلك يمتلئ قلب الزوجة حبًّا لزوجها، حينئذٍ لن يجد الشيطان سبيلاً نحو زوجين متحابَّين.
وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يجلس مع كرام الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا، ويُسأل أمام الملأ: من أحب الناس إلى قلبك يا رسول الله؟.. فلا يستحيي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلنها مدويةً: "عائشة" هكذا باسمها.. أحب الناس إلى قلبه هي زوجته عائشة!!، والعجيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ كان يبلغ من العمر سبعةً وخمسين عامًا!.
إن كلمه الحب كلمة وقيمة قرآنية، إنها في القرآن الكريم تعني حب الوالدين.. حب الأولاد.. حب الزوجة لزوجها.. حب الزوج لزوجته.. ولكن هذه الكلمة وهذه القيمة قد لوِّثت عن عَمدٍ وبفعل فاعل!.
إن أقصر الطرق للقضاء على المشكلات الزوجية هو طريق الحب، وأن يعلن كل طرف ذلك للآخر، كما أعلنه قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا الحب الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عودته من خارج بيته متعَبًا وما منا من أحد على وجه هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة يتحمَّل ما تحمَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعباء حياتية ودعوية، ومع ذلك تحكي له زوجته عائشة رضي الله عنها حكاية إحدى عشرة امرأة، ليست حكاية امرأة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإنما إحدى عشرة امرأة، ومع ذلك يستمع إليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفرغ من حكايتهن جميعًا، ثم يقول لها صلى الله عليه وسلم: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك".
لم تمنعه صلى الله عليه وسلم أعباء الدعوة ولا تبعات الجهاد ولا مكر الأعداء ولا الوقوف الدائم بين يدي الله من أن يكون عاطفيًّا ويعبِّر عن هذه العاطفة، فها هو يقرأ القرآن في حجر عائشة رضي الله عنها ويلعق أصابعها بعد الأكل، ويتسابقان خلف القافلة، ويدلِّلها ويناديها: يا عائش، ويتعلم منه علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه العواطف، وحينما يعود إلى بيته ويشاهد فاطمة رضي الله عنها تنظف أسنانها بالسواك، يقف رضي الله عنه مخاطبًا السواك قائلاً:
حظيت يا عود الأراك بثغرها... ألا خفت يا عود الأراك أراك؟
لو كنت من أهل القتال قتلتك... ما نجا مني يا سواك سواك
فهيا بنا نتعلم هذا الدرس من موسى عليه السلام، ولنجعل الحب يرفرف على بيوتنا، فعلى صخرة الحب تنكسر جميع المشكلات مهما كان نوعها وحجمها!.
هيا يا أخي أعلن ذلك لزوجتك، ولتكن هذه الكلمة على لسانك دائمًا: "يا حبيبتي"، وقدوتك في ذلك حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم.
هيا يا أختاه.. أعلنيها لزوجك دائمًا ولا تناديه إلا بها "يا حبيبي".
وأخيرًا.. كانت زوجتي أول القارئين لهذه الكلمات بعد تسطيرها، فسعدت كثيرًا وكذلك أنا..!.
هيا ننادي أولادنا بهذه الكلمة مضافةً "لأسمائهم" بذلك تمتلئ بيوتنا بالحب، مقتدين بحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.