د. خالد هنداوي
صحيفة الشرق القطرية
خير المطالع تسليم على الشهدا
أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
إذا كان للعلماء الربانيين دور عظيم في إيقاظ الأمة الإسلامية على طريق الجهاد والاستشهاد عبر التاريخ فإن شهيدنا العالم المحدث البروفيسور نزار عبدالقادر محمد الريان العسقلاني الأستاذ بالجامعة الإسلامية في غزة، والقائد السياسي والعسكري المجاهد هو ليث هصور من ليوث علماء المسلمين رحمه الله حيث قضى في أوائل أيام حرب غزة رابطاً عزيزاً في عرينه مع زوجاته الأربع وتسعة أبناء من أصل اثني عشر ابناً إثر القصف الجوي الذي تعمدهم في سكون الليل من الصهاينة الغادرين، وشاء الله أن يتخذهم شهداء لحبه لهم وفضل عظيم قدرهم عنده، حيث نقل السهيلي عن ابن هشام في السيرة في قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء...) "آل عمران: 140" أنه لا يقال اتخذ إلا في مصطفى محبوب.. فما أكرمها من نهاية لهذه الثلة المختارة، لقد تربى الشهيد نزار على مشاعل العلامة المرحوم سعيد حوى والعلامة المجاهد د. عبدالله عزام والدكتور أحمد نوفل وكان إماماً وخطيباً لمسجد "الشهيد" في مخيم "جباليا" الذي يوصف بأنه شوكة فلسطين، فمنه انطلقت المنظمات والانتفاضة الأولى ومنه ظهر المجاهدون الذين خطفوا عدداً من جنود الاحتلال، وفيه ظهر نزار أبرز القيادات، حيث لعب دوراً مهماً في معركة المخيم عام 2004 بين الفصائل المسلحة واليهود وكان قد ربى أسرته على الجهاد فأستشهد ابنه إبراهيم عام 2001م في اقتحام المستوطنة "دوغيث" شمالي قطاع غزة، ولقد كان نزار يلبس اللباس العسكري ويظهر مسلحاً علناً ويقول لابد للعالم والسياسي أن يقاتلا وقد فعل كثيراً حتى لقبه المجاهدون بأسد فلسطين.
وكان يحاضر في المقاومة وعموم الناس ويقول: الجهاد نصر أو استشهاد وكان يؤلف بين أعضاء المقاومة فتح وحماس ويقول: لست حزبياً في السلم فكيف أكون كذلك في المعركة، يسهر مع إخوانه الليل على تجهيز العبوات على الخطوط المتقدمة ويقول: ها هو العدو يفشل عشر مرات في هجومه علينا في المخيم ونحن نقاومهم بالإيمان والسلاح الخفيف، نحن شجعان وهم جبناء، وكم كان يتمنى الشهادة في سبيل الله حتى أكرمه الله وأسرته بها تقول ابنته ولاء: لقد ربانا والدنا على حب الشهادة وقال في آخر أيامه وهو يمازح الأسرة: من يحب أن يستشهد فيجيب الجميع كلنا إما أن نموت معاً أو نبقى واستجاب الله الدعوة بأن يتقبله شهيداً كما تمناها عمر بن الخطاب بصدق فرزقها، وتقول زوجة ابنه الأكبر بلال إيمان عصفورة: توجهت إليه قبل استشهاده بساعة فقال لي: هل تريدين أن تستشهدي معنا قلت: نعم فقال الله يتقبلنا جميعاً شهداء، وهكذا التربية الجهادية التي تحث على طلب النهاية المشرفة، وهكذا تشرب أرض غزة دم هؤلاء العلماء الشهداء لتنبت نصراً لأن الشهداء من الأمة بمثابة الأساس من البناء وبمثابة الروح من البدن وهم الوقود والطاقة الخفية في الأمة وكيف لا ونحن في معركة فلسطين التي هي المحك لقدرة المسلمين أو عجزهم، وليس دور العلماء اليوم بدور ثانوي ونحن نواجه النازيين الجدد ومحرقتهم في غزة الصمود والشموخ، بل يجب على هؤلاء العلماء أن يشقوا طريقهم عملياً في الأمة ويقودوا هذه الملايين المخلصة التي تتظاهر بحناجرها منكرة صمت الحكام وعجزهم، منتظرة قيادة العلماء الربانيين المجاهدين (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله) "الأحزاب: 39"، ولقد كانت خطوة اتحاد علماء المسلمين بقيادة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في رحلتهم إلى بعض الملوك والرؤساء في بعض البلاد العربية والإسلامية بوفد رفيع المستوى علماً وفهماً وخبرة وسياسة أقول: كانت بداية جدية للمناصحة والمكاشفة وإبراء الذمة وإذا حسنت البدايات حسنت النهايات كما قال رويم الزاهد، كما كان اقتراح الشيخ الداعية عبدالمجيد الزنداني بإنشاء معسكرات للتطوع والتدريب والجهاد للمواجهة مع الكيان الصهيوني شأناً ينبع من المعين الصافي الذي كان عليه علماء السلف حتى صرح رئيس ليبيا العقيد القذافي بمثل هذا الاقتراح ونادى به، وأياً كان الأمر فلابد لهذه المعركة أن تتبعه العلماء والحكام لأنه لا صلاح للأمة إلا بهما. روى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس بالعلماء والأمراء) حقاً كم يرفع الله بالعلماء العاملين قدر الحكام والشعوب وكم يحط من قدرهما بمن تسموا علماء والحقيقة أنهم أوعية علم لا علماء كما وصفهم أبو حامد الغزالي رحمه الله فإنهم يجرون مع الحاكم على هواه حتى في أخطر قضايا الأمة المصيرية كما هو الحال في قضية فلسطين وجرح غزة النازف المروع الآن.
ما أحوجنا إلى مثل العلماء الشهداء الذين كان منهم عز الدين القسام إمام وخطيب جامع الاستقلال في مدينة حيفا المجاهد الذي أذاق الانجليز الذين زرعوا فينا دولة "إسرائيل" الهزائم واستطاع أن يكوِّن الكتائب التي قادها ففتكت بهم حتى استشهد عام 1935 في مدينة جنين، واستمر الجهاد بعده وها هي كتائب القسام تذيق اليهود أشد العذاب، إن مثل هؤلاء يولدون دوماً في الأمة ويخلدون ولا يموتون. وإذا رجعت إلى المواقف الأولى في التاريخ عامرة عن العلماء الحكام الشهداء قصة أسد بن الفرات في القرن الثالث الهجري يركب البحر على رأس الجيش ليفتح صقلية إذ هو فاتحها وهو القائل: ما ولي لي أب ولا جد قط وما ترونه فبالأقلام والعلم فأجهدوا أبدانكم في طلبه، وفي جهاده تدور الدائرة على الروم وتفتح صقلية على يديه ويصاب فيستشهد.
وهكذا فإن الغنم بالغرم كما يقول الفقهاء. ثم عد معي إلى تاريخ حقبة الحروب الصليبية في زمن صلاح الدين الأيوبي لترى كيف أعان العلماء المجاهدون هذا الحاكم العادل الناصر لدين الله حتى استشهد عدد منهم. انظر إلى مواقفهم في حصار عكا كما هو حصار وحرب غزة اليوم ثم في الحرب لفتح عكا ثانية ثم المواصلة إلى فتح بيت المقدس تجد العلماء الربانيين المجاهدين أمثال القاضي الفاضل الذي يقول عنه صلاح الدين: ما فتحت البلاد بسيفي ولكن بالقاضي الفاضل أي بجهوده في توحيد الأمة وتوعيتها واشتراكه في القتال والمعارك كما حدث في فتح عكا وكان معهم من العلماء جمال الدين عبداللطيف وعيسى الهكاري الفقيه الذي لازم صلاح الدين في جميع غزواته إلى فتح بيت المقدس عام 583 يوم الجمعة 27 رجب، واقرأ عن حياة وجهود الفقيه ابن نجا الذي كان يدرس ويشارك في صد الصليبيين عن عكا في الحصار، وكذلك الفقيه ظهير الدين الهكاري الذي استشهد في الحصار ولما جاء خبره إلى أخيه الفقيه الكبير عيسى الهكاري قال: هذا يوم الهناء لا يوم العزاء. ونحن نقول أيضاً ذلك ولا نفت في عضد المقاومة في غزة كالذين يرون أنها تقضي على الشعب الفلسطيني كما صرح محمود عباس، نقول: انظروا إلى القاضي بهاء الدين بن شداد صاحب صلاح الدين والفقيه المؤرخ العماد الأصفهاني والقاضي المرتضى بن قريش حيث كانت لهم المواقف الجلى في نصر صلاح الدين، واعلموا أنه لا يصلح اعوجاج القادة إلا استقامة العلماء ولا خير في الحاكم إذا لم يسمع النصيحة من العالم كما سمعتها من الرئيس الاندونيسي "سوسيلو" فهل من مجيب!