المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله ³ ومعراجه، ومصلّى الأنبياء جميعًا ليلة الإسراء. وهو جامع كبير يقع في الجهة القبلية من ساحة الحرم القدسي الشريف في مدينة القدس. وقديمًا كان يُطلق اسم المسجد الأقصى على كل ما بداخل سور الحرم القدسي الشريف. بارك الله تعالى المسجد الأقصى حيث وصفه بقوله : ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾ الإسراء : 1 .
يشمل مفهوم المسجد الأقصى، المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة بالإضافة إلى الصلوات الأخرى حتى يومنا هذا، وكذلك الصخرة المشرفة، وجامع عمر، وجامع المغاربة وجامع النساء، ودار الخطابة والزاوية الختنية، والزاوية البسطامية، وقبة موسى بالإضافة إلى الأروقة والمنائر والمصاطب والأبواب والآبار وغرف السكن. كما تضم ساحة المسجد الأقصى محراب مريم (أم المسيح عليه السلام) ومحراب زكريا والد يحيى عليه السلام، حيث بشرته الملائكة أثناء وقوفه للصلاة بميلاد ابنه يحيى كما ورد في كتاب الله تعالى: ﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنىّ لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ¦ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ¦ فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين﴾ آل عمران : 37 -39 . ويضم أيضًا مآذن خليل الله إبراهيم ومكان اعتزاله للعبادة، وفيه القبة التي عرج منها رسول الله ³ إلى السماء، وتقع فوق المكان الذي صلّى فيه رسول الله ³ مع من سبقه من الأنبياء، وقبة السلسلة ومصلّى جبريل، ومصلّى الخضر (عليهما السلام).
حدّد ابن الفقيه والمقدسي طول المسجد الأقصى بألف ذراع وعرضه بسبعمائة ذراع، وأنه يضم أربع منائر للمتطوعة، ومنارة للمرتزقة، وثلاث مقصورات للنساء وثمانية أبواب وأربعة محاريب. وذكر ابن عبد ربه أن طوله 784 ذراعًا وعرضه 465 ذراعًا.
أمّا المسجد الأقصى الذي تقام فيه صلاة الجمعة وهو المتعارف عليه في عصرنا الحاضر والذي يقع في الجهة القبلية من ساحة الحرم القدسي فهو بناء عظيم به قبة مرتفعة مزّينة بالفصوص الملونة وتحتها المنبر والمحراب. يمتد بناؤه من جهة القبلة إلى الشمال في سبعة أروقة متجاورة مرتفعة على الأعمدة الرخامية والسواري التي تضم 33 عمودًا رخاميًّا و 40 سارية مبنية بالحجر. يمتد المسجد من الجنوب إلى الشمال بطول 100 ذراع، ومن الشرق إلى الغرب بطول 76 ذراعًا. وفي الجنوب الشرقي داخل المسجد، توجد مجموعة من العقود المشيدة بالحجر والجص وبها المحراب. وتسمى هذه الجهة جامع عمر. وإلى الشمال منها إيوان كبير معقود وآخر يُسمى محراب زكريا بجوار الباب الشرقي. وفي الجهة الغربية من الجامع مجمع كبير معقود بالحجارة يتكوّن من كورين ممتدين من الغرب إلى الشرق يُسمى جامع النساء. ويرجح أن هذا البناء تم في عهد الفاطميين. وخلف القبلة توجد الزاوية الختنية. وجهة الغرب توجد دار الخطابة، والمنبر الموجود في صدر الجامع هو منبر نور الدين، الذي أنشئ عام 564هـ، 1168م.
للمسجد عشرة أبواب تؤدي إلى ساحة الحرم القدسي الشريف، سبعة منها جهة الشمال وباب من الشرق وآخر في الغرب والباب الأخير في جامع النساء.
وللحرم القدسي المحيط بالمسجد عدة أبواب هي باب الرحمة، باب التوبة، باب البُراق، باب الجنائز، باب الأسباط، باب حطّة، باب شرف الأنبياء، باب الغوانمة (باب الخليل سابقًا) باب الناظر (باب ميكائيل سابقًا) باب الحديد، باب القطانين، باب المتوضأ، باب السلسلة، باب السكينة، باب المغاربة (باب النبي ³).
الإسلام والمسجد الأقصى
المسجد الأقصى أحد أهمِّ الأماكن الإسلامية المقدَّسة، وأقدمها. وهو ثاني مسجد بُني على الأرض بعد المسجد الحرام، وقد ولّى المسلمون وجوههم قِبَلَهُ في الصَّلاة قبل أن يولُّوها شطر المسجد الحرام، ومن هنا عُرِف بأولى القبلتين، ثم أمر الله سبحانه وتعالى الرسول ³ والمسلمين بأن يولّوا وجوههم شطر المسجد الحرام. قال تعالى: ﴿ قد نرى تقلُّب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ماكنتم فولُّوا وجوهكم شطره﴾ البقرة: 144 .
ارتبط ذكر المسجد الأقصى عند المسلمين بمعجزة الإسراء والمعراج التي كانت بداية للصلة الفعلية بين الإسلام والحرم القدسي الشريف، حيث كان هذا المكان مسرى النبي ومعراجه. وبعد ما يزيد على سبعة عشر عامًا من الإسراء والمعراج، كانت جيوش المسلمين تحاصر بيت المقدس في العام الخامس عشر من الهجرة، وبعد وفاة الرسول ³ بخمس سنوات.
العهد العُمَري (العُهدة العمرية). دُعي الخليفة الثاني لرسول الله ³ للذهاب إلى بيت المقدس وتسلّمها. جاء ذلك استجابة لدعوة صفراونيوس بطريرك القدس آنذاك. طلب أهل المدينة من أمير المؤمنين العهد والأمان، فكان العهد العمري ميثاقًا وأمنًا للناس في ذلك البلد المقدس، وجرت مراسم التسليم وتوقيع العهد على ساحة الحرم القدسي الشريف. ينص هذا العهد على ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء (القدس) من الأمان. أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أن لا تُسكَن كنائسهم، ولا تُهدم ولا يُنقص منها ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يَسكُن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية، كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها اللصوص والرّوم. فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وحليهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى حليهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان فيها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن رجع إلى أهله فإنه لايؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. (كُتب وحضر سنة خمس عشرة، وشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان).
وهكذا تعامل الإسلام مع أهل الأديان الأخرى بعدالته وسماحته. ومنذ ذلك التاريخ، اتجهت أنظار المسلمين إلى المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
بعد أن تسلّم الخليفة الثاني لرسول الله عمر بن الخطاب بيت المقدس، كشف عن مكان الصخرة المباركة التي طُمِرت تحت الأتربة والنفايات، وتسابق المسلمون في مشاركته ذلك العمل حتى تم تنظيف المكان المبارك، وظهرت الصخرة. بنى عمر رضي الله عنه المسجد المعروف بالمسجد العُمَري وأصبحت الصخرة في مؤخرته.
في عهد الأمويين. كان عبد الملك بن مروان شغوفًا بهذه البقعة المباركة، وأراد بناء قبة على الصخرة المباركة، فبعث بالرسائل إلى جميع عماله في سائر الأمصار معربًا عن رغبته في بناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وجاءته الموافقات تفيض حماسًا وتأييدًا، فجمع المال والصنّاع والمهندسين ورصد لهذه العمارة أموالاً طائلة، وخصص لها خراج مصر لسبع سنوات، ووضع المال في قبة صغيرة بنيت في صحن المسجد الأقصى (قبة السلسلة) وأسند الإشراف على البناء إلى رجاء بن حَيْوَة، ويزيد بن سلام مولى عبد الملك بن مروان. وأمر عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة على نموذج قبة السلسلة. استغرق البناء سبع سنوات. وفي أواخر عهد عبد الملك انهدم الجانب الشرقي من المسجد فأمر بإصلاحه.
في عهد العباسيين. أَوْلى العباسيون المسجد الأقصى عناية فائقة، فقد أصيب المسجد بزلزال مدمر عام 130هـ، 747م فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بتعميره. وفي عام 155هـ، 771م، وقع زلزال آخر في عهد الخليفة المهدي، فأمر بإصلاحه وتعميره وإعادته إلى الصورة التي تليق بمكانته في قلوب المسلمين.
أصيبت الدولة العباسية بالضعف والتمزق في القرن الخامس الهجري، مما أدى إلى ظهور دويلات هزيلة، إضافة إلى ضعف الدولة الفاطمية في مصر. وانتهزت أوروبا الفرصة، فجهّزت الحملات الصليبية التي اتخذت مظهرًا دينيًّا بهدف الاستيلاء على بيت المقدس، وأقاموا مملكة القدس عام 493هـ، 1099م، واستبيحت الأعراض والممتلكات، ولم يراعوا حرمة وقدسية المسجد الأقصى، فحولوا الصخرة المباركة إلى مذبح نصراني، ووضعوا التماثيل فوقها، وشوهوا معالم المسجد الأقصى المبارك، فبنوا على محرابه جدارًا لإخفاء معالمه واتخذوا من المسجد سكنًا لجنودهم، وذبحوا الكثير من المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً.
في العهد الفاطمي. تم تجديد قبة الصخرة عام 413هـ لحفظها من آثار التعرية الجوية، وتوالت التجديدات في عهدهم، لتشمل الحرم القدسي المبارك بكامله.
في عهد المماليك. استمر المماليك في الحكم قرابة ثلاثة قرون، قضوا جانبًا منها في القضاء على ما تبقى من الصليبيين. استسلمت في عهدهم باقي الإمارات الصليبية عام 690هـ، 1291م كما تمكّن المماليك من صدّ الغزو المغولي عن العالم الإسلامي، وإنقاذ المسجد الأقصى من الوقوع في براثنهم مرة أخرى. انظر: عين جالوت، موقعة. كما تمت في عهدهم عدة تجديدات لعمارة المسجد الأقصى. تحمل النقوش المحفورة على جدران المسجد أسماء الخلفاء والأمراء والملوك الذين تطوعوا في كل مناسبة بالحفاظ على هذا الأثر الإسلامي الخالد.
إصلاحات صلاح الدين. بمجرد أن تسلم صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس، وبعد أن طهرها من الصليبيين، عقب احتلال دام 88 عامًا، عمل على إزالة التشوهات التي لحقت بالآثار الإسلامية، فطهر قبة الصخرة من التماثيل والهياكل التي وضعت فوقها، وأزال الجدار الذي وضعه الصليبيون على محراب المسجد الأقصى، وأمر بتجديده، ونقل إلى المسجد الأقصى المنبر الذي أعده نور الدين زنكي لهذا اليوم، والذي صنع بمدينة حلب. كما ملأ المسجد والحرم القدسي الشريف بنسخ من القرآن الكريم مايزال بعضها محفوظًا إلى الآن. وكذلك شيد العديد من المدارس الإسلامية..