إذا كان من القواعد السياسية الدولية المألوفة كون الولايات المتحدة بمثابة "الراعي الرسمي" للإرهاب الصهيوني، فإن كارثة غزة الأخيرة قد تركت علامة استفهام كبرى حول الموقف الأوروبي، بعد أن بدا هزيلاً صفر اليدين أمام مجازر آلة الحرب الصهيونية للمدنيين الفلسطينيين.
وفي محاولة من الخبير السياسي البريطاني "ألاستير كروك" تقديم تفسير وتحليل لأسباب مثل ذلك الموقف المتخاذل الذي اتخذته الحكومات الأوروبية حيال مذبحة غزة، كتب تحت عنوان: "غزة؛ مخلب قط في "اللعبة الكبرى" الجديدة" مقالاً نشره موقع "آسيا تايمز أونلاين" جاء فيه:
بينما يشاهد الأوروبيون الأزمة الإنسانية في غزة على مرأى العيان من خلال نشرات الأخبار المسائية، فإن الكثيرين منهم ربما يتساءلون: لماذا تبدو هذه الأزمة وقد تركت حكوماتهم تتخبط بمثل هذه الفوضى المتعثرة الواضحة. والإجابة هي أن ذلك نتيجة لسياسات تمتد في اتجاهات معاكسة -وتضارب حاد في صميم صناعة سياساتهم.
المخطط الكبير
إن ما حدث في غزة كان أمرًا متوقعًا تمامًا. وكانت قلة من "الإسرائيليين" قد حذرت مسبقًا من هذه الأزمة المقبلة، غير أن إغراء "المخطط الكبير"- لصراع عالمي بين "المعتدلين" و"المتشددين"- قد فاق تحذيراتهم التي قدموها للناخبين "الإسرائيليين".
فافتراض أن حرفيًا "كل شيء" يجب أن يُقدم إما من أجل دفع "المعتدلين" إلى السلطة، أو منعهم من فقد السلطة- ما يسمى مجازًا "دعم الاعتدالية"- كامن في لب أزمة غزة.
إنه مخطط قد خدم المصالح "الإسرائيلية" الأكبر في حشد الشرعية للحملة "الإسرائيلية" ضد إيران، وفي تقسيم المنطقة إلى "معتدلين" نزاعين للغرب و"متشددين" إسلاميين.
وقد كان في تبشير "توني بلير"- رئيس الوزراء البريطاني السابق ومبعوث اللجنة الرباعية للشرق الأوسط حاليًا- بهذا المبدأ حول العالم سندًا كبيرًا لـ "إسرائيل" التي تتطلع أن تكون عضوًا رائدًا في كتلة "معتدلة" وليست جزيرة معزولة داخل شرق أوسط متصاعد المد الإسلامي.
إلا أن مساعي بلير وغيره من أعضاء اللجنة الرباعية لمطابقة هذا النموذج الميكانيكي في الشرق الأوسط المعقد الذي يواجه العديد من الصراعات، قد قلص الأزمة الفلسطينية لتكون ليس إلا مخلب قط في "لعبة" أكبر في الصراع العالمي القائم ضد "التشدد".
أما ما إذا كان هذا المنطق سيحقق أي شيء قريب من هذه النتيجة فلا يزال أمرًا بعيد الاحتمال إلى حد كبير، لكن ثمنه- بينما وُصفت حماس بوضوح وهوجمت كجزء من قوى "التشدد" العالمية- كان عرقلة إمكانية أي حل للصراع "الإسرائيلي- الفلسطيني".
تورط أوروبي
والإذعان الأوروبي لهذه الرؤية "البليرية" بشأن ضغط حماس وكسر شوكتها قد ساهم بشكل مباشر في حمام الدماء المشاهد في شوارع غزة اليوم. إن الزعماء الأوروبيين متورطون في خلق الظروف التي أدت إلى كارثة اليوم.
وعلى أحد المستويات، ربما يقول الأوروبيون إنهم يعملون بجد للتوصل إلى حل "إسرائيلي- فلسطيني"، إلا أن تحركاتهم توحي بعكس ذلك- أي بأنهم مهتمون على نحو أكبر بتوجيه ضربة حاسمة لمعسكر "التشدد" العالمي-. فالسعي وراء مثل تلك الأهداف المتضاربة لم ينجح إلا في تجريد حليفهم المصون الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" من أية شرعية شعبية، وكذلك في إغلاق طريق المشاركة السياسية أمام حماس.
لقد قاموا بتدمير أي أمل لتحقيق تفويض وطني فلسطيني فعلي لحل سياسي في المستقبل المنظور. فالـ"الهندسة الاجتماعية" الأوروبية في غزة لم تخلق سوى انشقاق عميق بين الفلسطينيين، وربما دفعت مسألة قيام دولة فلسطينية إلى ما دون المنال.
والزعماء الأوروبيون الذين يعتنقون هذه الإستراتيجية يأملون في الخروج باتفاق "سلام" سريع تحت الطاولة مع عباس يمكن بعد ذلك أن "يُفرض" على الفلسطينيين من خلال قوة "حفظ سلام" متعددة الجنسيات.
ويمكن أن يتحقق ذلك بالتعاون مع كل من مصر والسعودية اللتين صارتا أكثر خوفًا من التحديات من جانب جمهور الناخبين داخل بلدانهم، واللتين لا تعارضان رؤية حماس مقوضة في غزة و"معاقبة" من قبل "الإسرائيليين". فالمرحلة الأولى هي إضعاف حماس، والمرحلة الثانية إدخال قوة دولية مسلحة إلى غزة، أما المرحلة الثالثة فهي خاصة بعودة قوات عباس الخاصة المدربة بريطانيًا وأمريكيًا إلى غزة واستئناف السيطرة على القطاع. إنه تكتيك استعماري معروف.
وأي خبير نفسي، بالرغم من ذلك، ربما قد ينصح صانعي السياسة الأوروبيين والأمريكيين بأن وضع مليون ونصف فلسطيني "تحت حمية غذائية"- بحسب ما وصفه مستشار سابق لرئيس الحكومة "الإسرائيلية"- وتمزيق أية خطط أو آمال يمكن أن تكون لديهم بشأن مستقبلهم لا يجعل المرء أكثر انصياعًا ولا أكثر اعتدالاً. فبعد برهة في إناء الضغط في غزة يغلي فيه الغضب واليأس؛ فإن غزة في النهاية ستكون مستعدة للانفجار بشكل أو بآخر.
التطهير السياسي
وبينما ضُيق الخناق على غزة إلى حد اليأس على أمل أن ينقلب سكانها ضد حماس، أنهكت كلاً من بريطانيا والولايات المتحدة نفسها في تدريب قوات ميليشية فلسطينية خاصة حول عباس. وقد استخدمت هذه القوات في قمع النشاط السياسي لحركة حماس في الضفة الغربية وإغلاق المنظمات الخيرية والاجتماعية التي لا تندرج بصورة مباشرة في صف عباس. وكما كان متوقعًا فقد قوبلت سياسة "التطهير" السياسي، التي استترت تحت شعارات "بناء مؤسسات أمنية"، في الضفة الغربية قوبلت برد فعل موازٍ لها من قبل حماس في غزة؛ ما فاقم من الانقسامات الفلسطينية.
هذه إذن الخلفية التي تم انتخاب حماس لمواجهتها ورفض تجديد وقف إطلاق النار. فالوقوف بسلبية وانعزال بينما يعاني الفلسطينيون في غزة من الفقر واليأس في اتفاق ممدد لوقف إطلاق النار، والمشاهدة بينما يواصل التطهير السياسي الأنجلو أمريكي مسيرته في الضفة الغربية لم يكن أمرًا معقولاً. كما أن السياسة الأوروبية لم تؤدّ إلى حل سياسي، بل إنها قد حفزت تيارًاًا من التدمير الذاتي في غزة والضفة الغربية.
وحتى في أعقاب اندلاع هذه الأزمة الإنسانية، فإن الوسطاء الأوروبيين يبدون أكثر اهتمامًا بالقتال في الحرب العالمية بين"المعتدلين" و"المتشددين" أكثر من اهتمامهم بتحقيق حل. وفي ظهور له في التليفزيون"الإسرائيلي" ذهب بلير إلى أن الأولوية يتعين أن تكون ضمان عدم استمرار وصول الأسلحة إلى حماس عبر أنفاق التهريب، وإلا ستستمر عمليات القتل.
وقد قيل ذلك تمامًا في الوقت نفسه الذي كان يحيط فيه المسئولون "الإسرائيليون" الصحفيين بأن الجيش بدأ التخطيط، والتدريب، وجلب الأسلحة الجديدة من الولايات المتحدة من أجل هذا الهجوم-- بالرغم من أن شروط اتفاق الهدنة السابقة كانت لا تزال لم يتم الاتفاق عليها مع حماس.
إن تأثير هذا النهج الفكري (الاعتدال- التشدد) على الأوروبيين والأمريكيين يشير إلى أن الأوروبيين سيقبلون مجددًا بأهداف وقف إطلاق النار الرامية إلى القضاء على أي مستقبل سياسي لحركة حماس. إن الصراع متأهب للاستمرار، لكن معالم اتفاق جديد لإطلاق النار متاحة حاليًا إذا تخير المرء أن يتلمسها.
فالمعابر الحدودية يجب أن يتم فتحها بصورة تامة، كما يجب أن تعود حياة أهالي غزة إلى طبيعتها. على هذا الأساس، يمكن أن يتم الاتفاق على وقف راسخ لإطلاق النار. أما الوحدة الفلسطينية فستتحقق فقط عن طريق فتح مؤسسات القيادة الفلسطينية، بما فيها "منظمة التحرير الفلسطينية"، أمام إصلاحات جذرية من شأنها أن تجعل منها ممثلاً حقيقيًا للشعب الفلسطيني- وليس عن طريق التطهير السياسي لحماس من الساحة السياسية.
إن المحاولات الغربية المتكررة لفرض نموذج أساء بإصرار فهم أين يكمن الخطر الحقيقي في "الإسلام السياسي" كما أساء تحديد غير المعتدلين والمعتدلين، لم يسهم حتى الآن إلا في تأجيج نيران "التطرف" بدلاً من إخمادها.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) ألاستير كروك: مدير مركز «منتدى الصراعات»، وكان قد عمل وسيطًا للاتحاد الأوروبي بين حماس وعدد من الحركات الإسلامية الأخرى.