لم تستطع إسرائيل أن تقضي على المقاومة اللبنانية في حرب تموز، فجربت حظها في حرب الكوانين ضد المقاومة الفلسطينية في غزة، لكنها فشلت في تدمير المقاومة أيضا. كان الهدف واضحا، وكانت الآمال معقودة على الجيش الإسرائيلي للتخلص من المقاومة المحيطة بإسرائيل والتي تشكل عقيبة كأداء أمام جهود تصفية القضية الفلسطينية، لكن مجرى القتال لم يجر وفق ما اشتهت إسرائيل ومن انتظروا منها النصر المبين من العرب وغير العرب. جيش إسرائيل فشل في تحقيق أهداف دولته التي قزمت أهدافها في نهاية الحرب إلى اتفاق مع دول أخرى من أجل منع تهريب السلاح إلى غزة.
قدمت أنظمة عربية عدة دعمها المعنوي والاستخباري لإسرائيل أثناء الحرب على المقاومة اللبنانية، وقدمت دعما أكثر وضوحا وتشعبا أثناء الحرب على غزة، لكن الحصاد لم يكن سوى الخيبة. هذه الأنظمة وأعوانها لم يجدوا في الفشلين فرصة لإعادة التفكير في تحالفهم مع إسرائيل، وإنما طفقوا يبحثون يائسين عن مبررات لإقناع الناس بأن مقاومة لبنان وفلسطين قد هزمتا، وأن إسرائيل هي التي انتصرت. بدلا من مواجهة الحقيقة ما زالوا يصرون على الإمعان في استنزاف معنويات الناس والتأكيد على أن طريق المفاوضات هو طريق لقمة الخبز حتى لو غابت الحرية وضاعت الحقوق. كانت هناك فرصة وما زالت للم الشمل العربي على قاعدة الإصرار على الحقوق، لكن لا تلوح في الأفق آمال أو إشارات.
تشير الحقيقة الموضوعية إلى أن قدرة إسرائيل القتالية آخذة بالانحسار، بينما قدرة المقاومة آخذة بالصعود. كانت إسرائيل تقوم بعمليات عسكرية جوية وبرية متزامنة، وكانت حروبها نزهة. الآن تخشى إسرائيل الزج بقواتها البرية معتمدة في البداية على القوات الجوية لتمهيد الطريق للزحف البري. ومع ذلك فشل زحفها البري في لبنان، وحزب الله ما زال موجودا في القرى والمناطق اللبنانية الحدودية، وفشل في غزة من حيث أن المقاومة موجودة على الأرض ويستمر تهديدها للتجمعات السكانية اليهودية. إسرائيل لم تعد قادرة على القيام بما كانت تقوم به في السابق، وكذلك الولايات المتحدة، وواضح أن زمن "الهريبة" العربية من أرض المعركة قد انتهى، ويبدو أن زمن الجندي العربي الذي يضع يديه فوق رأسه مستسلما لليهودي قد ولى. الآن هي مرحلة صمود، وقريبا ستكون مرحلة هجوم، وستتحول حروب المقاومة من حروب ساكنة إلى حروب متحركة.
إذا كانت إسرائيل تفشل بزحفها البري الآن، فماذا هي فاعلة إذا امتلكت المقاومة العربية مضادات فعالة للطيران؟ ماذا إذا استطاعت المقاومة إسقاط الطائرات الإسرائيلية؟ وقناعتي أنها ستستطيع. هل سيبقى جيش إسرائيل في مكانه، أم أنه سيتقهقر إلى الخلف؟ جيش إسرائيل سيندحر في المرات القادمة بخاصة على الجبهة اللبنانية، وهذا يعني أن بعض مستوطنات إسرائيل في الشمال مرشحة للسقوط أسيرة.
ميزان القوى في المنطقة العربية الإسلامية قد تغير، وكل يوم يطرأ عليه تغير جديد. صحيح ان قوة إسرائيل تزداد، لكن التسارع في تصاعد قوة المقاومة يفوق الزيادة في القوة الإسرائيلية.
إسرائيل تمتلك كل يوم المزيد من القوة التدميرية، لكن الطرف الآخر يكتسب كل يوم قدرة على امتصاص الضربات وإفشالها. ميزان القوى في المنطقة العربية الإسلامية قد تغير، وهو لا مفر سيفرض علاقات جديدة على مختلف المستويات. كل ميزان قوى يفرض نوع العلاقات المتناسبة معه، والمنطقة تشهد الآن تحولات، وستشهد المزيد مستقبلا.
إسرائيل لم تعد الدولة التي يُعتمد عليها في التأديب والتهديد والاحتلال، ولم يعد قادتها أولئك القادة، ولا جيشها ذلك الجيش، ولا شعبها ذلك الذي هاجر وصبر وتحمل وأقام الدولة. إسرائيل تناقش الآن كيفية تغيير استراتيجياتها العسكرية، وتغيير التكتيكات العسكرية التي اتبعتها حتى الآن علّ وعسى أن تفلح في حروب قادمة. كما أن عددا من الكتاب الإسرائيليين قد أخذوا يتساءلون عن قدرة إسرائيل على الصمود والاستمرار. طبعا لا أريد بهذا الكلام ان أقول بأن إسرائيل قد انتهت، وإنما أقول بأن نجمها قد بدأ يخفت وأن العد التنازلي لوجودها قد بدأ.
كان بإمكان إسرائيل أن تجتاح دولا عربية في زمن قياسي وتبعا لسرعة الدبابات الإسرائيلية القصوى، لكنها الآن لم تستطع السيطرة على قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 362 كم2 فقط، واكتفت بحصاره بالتعاون مع الأنظمة العربية. في أي حرب قادمة ستستشرس إسرائيل بالمزيد، وستقتل من المدنيين الآلاف، وستدمر القرى والمدن، وربما ستستعمل القنابل النووية التكتيكية، لكنها لن تنتصر.
الرهان على إسرائيل خاسر، كما أن الرهان على أمريكا لن يكون رابحا، ومن يراهن عليهما من العرب سيجد نفسه مع الخاسرين. إنه من المهم أن نرى الحقيقة ونعود إلى أنفسنا، لنكون معا في مواجهة الأعداء واستعادة الحقوق. انحياز أنظمة عربية لإسرائيل يزيد الأوضاع الداخلية العربية سوءا، ولا يشكل ضمانة للأنظمة العربية بأن المقاومة العربية ستختفي وسيزول تأثيرها. الإنسان السوي هو الذي يراهن على قدراته الذاتية، وعلى سواعده وإرادته الحرة الصلبة، أما الذي يراهن على العدو فلن يحصد سوى الذل والعار.
قد يختلف أحد مع حزب الله ومع حماس والجهاد وكتائب الشهيد أبوعلي مصطفى وكتائب شهدا الأقصى وكتائب جبريل والمقاومة الشعبية وألوية الناصر، لكنه اختلاف يبقى داخل البيت، أما التحالف مع العدو فهو اختلاف على البيت لن يؤدي في النهاية إلا إلى اقتتال داخلي يكون العدو هو الرابح الوحيد فيه. ولا يظنن أحد أنه إذا قرر التخلي عن حقوقه أو التنازل عن بيته، أن الشعب سيجري خلفه بائعا ومتنازلا؛ ولا يظنن أن مال الدول المانحة كفيل بإتلاف ذاكرة لم تتلفها السنين الطوال.