إعداد: خولة العليوي
الكثير من الفاشلين هم أشخاص لم يدركوا قربهم من النجاح عندما قرروا الانسحاب... توماس أديسون
يعدّ النجاح والتفوق، من الأولويات التي يفكر بها الوالدان حين دخول ابنهم المدرسة، ومنذ اليوم الأول لالتحاق ولدهم بالمدرسة، تبدأ الأحلام وتتعدد التوجيهات، وتكثر قائمة الطلبات من الأهل.. لا تكثرْ من مشاهدة التلفاز، لا تسهرْ طويلاً، لا تتأخرْ باللعب مع رفاقك، افتحْ كتبك وادرسْ، ذاكرْ واجباتك اليومية، ماذا تعلمت في المدرسة اليوم؟ ما هي وظائفك ليوم الغد؟ هل أتممت كل واجباتك؟... الخ وكأن كل ما يترتب على الطالب فعله هو الدراسة والمذاكرة فقط، وعليه أن ينسى كل ماعدا ذلك خلال العام الدراسي، ويُرحِّل كل اهتماماته وهواياته الأخرى إلى فصل الصيف.... وما على هذا الطالب المسكين سوى الاجتهاد من أجل تحصيل التفوق الدراسي ليصبح طبيب العائلة أو مهندس المستقبل، وقد يتنازل الأهل في طموحاتهم إلى مستوى محامٍ أو مدرِّسٍ... ولكُمْ أن تتخيلوا مقدار خيبة الأمل التي يصاب بها الوالدان عندما يعلمان أن فلذة كبديهما فاشل في الدراسة، أو أنه لا يتجاوب مع المدرسين، وتكون الكارثة في المنزل، وتبدأ كل المحاولات لحشو مخ هذا المسكين بالمعلومات على اختلافها، ويصبح المنزل محجّاً للمدرسين الخصوصيين، وتتضافر جهود الوالدين ومَنْ حولَهما من أجل النهوض بمستوى هذا الطالب الكسول، خطط ودراسات وتكتيك وتبوء كلها بالفشل، بعدها يوضع هذا الطالب على قائمة الفاشلين دراسياً، وينصبّ جامُ غضب الوالدين عليه، ويحرم من كل المغريات والمكافآت التي هي من حقه إنسانياً... ويصبح هذا الطالب مصدر خزي وعار على العائلة، كل هذا لأنه فاشل دراسياً... وتعمى الأبصار عن مواهبه الأخرى، وتتركز على مقدراته الدراسية.. ويُطرد الولد من جنة أبويه ويُحرم ثمارَ عطفها، وينسى الوالدان أن يتساءلا كيف لهما أن يستنهضا الطاقات الإيجابية الأخرى الكامنة في ابنهما الفاشل دراسياً، وهو الذي قد يكون ماهراً في مواضع أخرى؟ وكيف لهما أن يعززا مبادرات الخلق والإبداع فيه؟..
هذه والدة المخترع العظيم أديسون لم تبكِ نائحةً عليه، ولم تندب حظها أو تؤنب ولدها عندما قام المدير بطرده بعد ثلاثة أشهر من دخوله المدرسة فقط، حيث وجد المعلم فيه طفلاً بليداً غبياً ومتخلفاً عقلياً، بل شدّت على يديه وآمنت بقدراته الإبداعية الأخرى بكل محبة وحنان، وقد ذكر أديسون هذا في مذكراته فيما بعد قائلاً: (إن أمي هي التي صنعتني، لأنها كانت تحترمني وتثق بي، أشعرتني أني أهم شخص في الوجود، فأصبح وجودي ضرورياً من أجلها وعاهدت نفسي أن لا أخذلها لأنها لم تخذلني قط)، وهكذا تحول هذا التبلد الدراسي إلى عبقرية فذَّة تبدَّتْ في الاختراعات التي تجاوزت الألف اختراع، ولا يقل أحدها أهمية عن الآخر، يتصدرها اختراع المصباح الكهربائي، الذي أتت فكرته عقب مرض والدته الشديد وحاجة الطبيب إلى الضوء ليقوم بعلاجها على أتم وجه، وتعذر هذا العلاج ليلاً لعدم وجود الإضاءة الكافية، وهكذا من قلب المحنة والمأساة يعمل العقل الجامح على تمزيق كل المعايير القائمة، ويبدأ بالتفكير لإيجاد حل لمأساة قد تكون شخصيةً من جهة.. لكنها بالمقابل هي حاجة كل البشرية، وسطَّر توماس في مفكرته... لابد من إيجاد وسيلة للحصول على ضوء أقوى من ضوء الشموع ليلاً!! فكرة وتساؤل واستقراء للمعطيات الموجودة، قادت أديسون في طريق اختراع المصباح الكهربائي الذي يعدّ أعظم اختراع تاريخي طال تأثيره كل تقدم حصل فيما بعد.
ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ فهذا الشاب الطموح، لاينظر إلى الأشياء حوله كما هي على حالها، بل يدقق ويفكر ويحلل ليخلص إلى ماهيتها وإلى طرق تطويرها لإيجاد الوسائل التي تؤمن العيش الأفضل للناس، فعندما كان يعمل موظفاً لإرسال البرقيات في محطة للسكك الحديدية اخترع أول آلة تلغرافية ترسل آلياً، وأبدع أديسون في عمله وأبدى نشاطاً ملحوظاً، وأسس مختبره الخاص في عام 1876م واخترع آلة برقية آلية تستخدم خطاً واحداً في إرسال العديد من البرقيات، ثم اخترع آلة "كرامفون" التي تقوم بتسجيل الصوت ميكانيكياً على أسطوانة من المعدن، وبعدها بسنتين جاء اختراعه العظيم المصباح الكهربائي.
وفي عام 1887م نقل مختبره إلى ويست أورنج في ولاية نيو جيرسي، وهناك اخترع kinetoscope وهو أول جهاز لعمل الأفلام، وقام باختراع بطارية تخزين قاعدية، وفي عام 1913م أنتج أول فيلم سينمائي صوتي.
وهكذا توالت الاختراعات، ولم يكن الفشل يعرف طريقه إلى عقل أديسون أو قلبه ، ولم يكن فشله الدراسي ليؤثر في مسيرة حياته، وأدرك أن النجاح الذي فاته في مكان ما، هو لشخص آخر، وأن ما ينتظره أعظم، لم تتوقف الحياة عنده في محطة واحدة، بل أدرك أن هناك محطات كثيرة لابد له من عبورها وتحقيق النجاح في القادم منها، فكان يعد المحاولات الفاشلة تجارب غير مكتملة النجاح، تعلَّم منها قواعد ثابتة ينطلق منها لتجارب أخرى ناجحة، فالفشل فرصة وتجربة، وهو هزيمة مؤقتة تقودك إلى فرص الانتصار الناجح، ومن هنا فقد قام أديسون بـ 1800 محاولة غير مكتملة النجاح، قبل أن يبصر اختراعُه الكهربائيُّ الحياةَ، وينير به الظلام الدامس الذي كان يلف ليل البشرية جمعاء، وبذلك تأتي كل هذه الاختراعات لتؤكد عظمة أرقى نموذج من نماذج العبقرية الإنسانية، حيث تعد قصة توماس أديسون مؤسس التطور الحديث الذي نعيشه، من أروع قصص العصامية والكفاح، ولعل كل والدة تلمس في طفلها الفشل الدراسي تجد عزاءها في هذه القصة، لتدرك أن هناك طاقات إبداعية كامنة في كل طفل لابد من إعطائه الدفع اللازم والثقة الكبيرة لإخراجها، فلا تُرْغم طفلها على الانسحاب من مسيرة التقدم في الحياة.
فالنجاح قد ينتظره في محطات أخرى، عليها أن تمدّه بالطاقة والطموح للوصول إليها.