بقلم: تحسين يحيى أبو عاصي
كان أيام البلاد في الثلاثينات، وفي قرية من قرى جنوب فلسطين اسمها قرية الكوفخة، وهي قرية تقع بين مدينتي غزة وبئر السبع، كان ثلاثة من الجيران وكان لكل جار منهم مارس من الأرض أو مِقْتاة، يُقدر بثلاثين دونما، كان الثلاثة يسكنون في مارسهم، يخرجون كل يوم من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس يزرعون ويحصدون، ويفلحون ويعيشون الحياة الهادئة الآمنة، يسود بينهم الحب والتآلف والإحترام، يأكلون ويبيعون من مارسهم، ويُربُّون الطيور والحيوانات، ولا يحتاجون السوق في كثير ولا قليل، وكان لكل واحد منهم مجموعة من الشباب الأقوياء، هم أبنائه وثمرة فؤاده.
وفي يوم من الأيام، أقبل راع ٍ بقطيع ٍ من الأغنام على المارس الأوسط، فعاث بأغنامه تحطيما وإتلافا فيه، انتبه صاحب المارس إلى الراعي والغنم يعيث في زرعه تخريبا، ولم يتكلم ببنت شفه، وفجأة طلب صاحب المارس من الراعي أن يبيعه رأسا وافيا من رؤوس الأغنام، استلم الراعي ثمن ما باعه وانصرف عائدا بأغنامه، نادى الرجل صاحب المارس على أبنائه الشباب، وكانوا في مكان من المارس يبعد عنه قليلا بحيث لم يروا ما حصل من الراعي، نادى عليهم وقال لهم: يكفي اليوم عمل، انهوا أعمالكم وتعالوا للطعام، تساءل أبناؤه بينهم عن أمر لم يعتادوا عليه، فمنذ سنوات طويلة وهم يعملون من الفجر وحتى غروب الشمس، أما اليوم فالأب يطلب منهم أن ينهوا أعمالهم وقت الضحى، واعتبروا ذلك أمرا غريبا لم يعتادوا عليه من قبل سألوا أباهم عن الأمر فأجابهم: نريد أن نتناول طعام الغداء ونأخذ قسطا من الراحة معا.
وفي اليوم الثاني أقبل الراعي ذاته، على مارس الأرض المجاورة للرجل من ناحية اليمين، وفعل بأغنامه ما فعله مع الجار السابق بالأمس، صرخ عليه صاحب المارس مزمجرا متوعدا: كيف تدخل بأغنامك مارسي وتعيث بزرعي تخريبا وتحطيما ؟ جاء الراعي مسرعا وصفع الرجل صاحب المارس على وجهه، رأى أولاده الشباب ما حدث مع أبيهم فانطلقوا إليه مسرعين وأردوه قتيلا.
سمع الجار الأوسط بالخبر، وهو الذي عاث الراعي بالأمس في أرضه، جمع أولاده وقال لهم: انظروا، هذا بالأمس كان يريد أن يموت على أيدينا ولكن الله سلَّم، والشطارة في الصبر.
وفي مرة ثالثة، أقبل فارس فوق فرسه: واقتحم مارس الجار الآخر من يساره، ترجل الفارس من على فرسه، وبدأ بقطف من الثمار ويضع في سرج فرسه، على مرآى ومسمع من صاحب المارس، لم يتكلم صاحب المارس بكلمة واحدة، وطلب من أبنائه التزام الهدوء وعدم التعرض له، حمل الفارس ما جمع من الثمار فوق ظهر حصانه وسلاحه عن يمينه، ثم سار مسافة مائتي متر وإذ بصوت طلقات من الرصاص تدوي في المكان، انطلق الرجل وأبناؤه نحو صوت الرصاص ليجدوا الفارس جثة هامدة يسبح في دمه، وقد كان يعبث في سلاحه قال الأب لأبنائه: انظروا لو لم تصبروا عليه قليلا لمات على أيديكم، والشطارة في الصبر.
من فم رجل اقترب على المائة عام