[center]
[القدس هي زهرة المدائن.. مدينة الرسالات والأنبياء، تحمل على كاهلها تاريخًا طويلاً، يضرب بجذوره عبر الدهور وأحقابها الغابرة، والمدينة جزءٌ من هوية المسلمين وثقافتهم، فمسجدها الأقصى المبارك محور معجزة الإسراء والمعراج، إليه انتهى الإسراء ومنه بدأ المعراج إلى السماوات العُلا، وفيه صلَّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إمامًا بالأنبياء والرسل جميعًا.. قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).
فتحها الفاروق عمر دون أن تُراق فيها قطرة دم، ووقَّع مع بطريركها صفرونيوس وثيقةَ الأمن والسلام "العُهدة العمرية"، وروى ترابها المجاهدون الأخيار بدمائهم الزكية، وحرَّرها الناصر صلاح الدين من الصليبيين.
إن قدسيةَ هذه المدينة ومكانة المسجد الأقصى المبارك لدى المسلمين جميعًا جعلتها مطمعًا للغزاة، وكان الاحتلال الصهيوني لها ولأرض فلسطين أبشعَ صور غزوها على مر التاريخ؛ فقد دنَّس المقدسات وانتهك الحرمات، وحاك ضدها مؤامراتٍ لا تخفى على أحد.
قصة المنبر
كان القائد المسلم السلطان نور الدين محمود بن زنكي كلما انتهى من معركة انتصر فيها على الصليبيين يقول لقُوَّاده الحمد لله اقتربنا من القدس وسوف ندخله إن شاء الله قريبًا نُقيم فيه الصلاة فلنستعد بمنبرٍ عظيمٍ يليق بذلك اليوم العظيم يصعد فيه الخطيبُ ويُحيي يوم النصر ويهز الجدران كما يهز القلوب، فاستدعى سنة (563هـ/1167م) أمهر المهندسين والصناع، وكان منهم حميد الدين بن ظافر الحلبي، وسليمان بن معالي وطلب منهما أن يصنعا منبرًا فخمًا لم يُصنع مثله من قبل، وأن يكون المنبر تحفةً تتلألأ يتميز بدقةِ صنعته ليليق بجلال المسجد الأقصى، وكأنَّه كان على يقين أنَّ الله ناصره ومحرر القدس على يديه، واستعجلهما في الطلب، وبدأ الصناع بتنفيذ المنبر في مكانٍ يُدعى (الحلوية) في مدينة حلب في سوريا، إذ اشتهرت مدينة حلب في تلك الفترة بصُناعها ودقة صناعة الأخشاب فيها، وأمر نور الدين ببناء إيوان خاص في مدرسة الحلوية في مدينة حلب ليوضع فيه حتى تحين ساعة النصر والتحرير للمسجد الأقصى.
والمنبر كان يُشكِّل تحفةً فنيةً وأثريةً رائعةً نادرةَ الشكل؛ ولذلك يعده الباحثون والآثاريون من أجمل المنابر الأثرية وأدقها صناعةً والتي لا مثيلَ لها في العالم الإسلامي، فهو مصنوعٌ من قطعٍ خشبية معشَّق بعضها مع بعض دون استعمالِ مسامير أو أية مادة لاصقة، ويبلغ ارتفاعه نحو ستة أمتار وطول قاعدته أربعة أمتار واستخدم في صناعته خشب الأرز من لبنان وأخشاب الصنوبر والأثل ومرصّع كلّه بالعاج والأبنوس، وبابه يرتفع فوقه تاجٌ عظيم ثمَّ درج سلم يوصل إلى جلسةِ الخطيب التي يتوجها من أعلاه جوسق خشبي محمول على صفوفٍ من المقرنصات، ويحتوي المنبر على نصٍّ تأسيسي يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمله العبد الفقير إلى رحمته الشاكر لنعمته المجاهد في سبيله المرابط لإعلاء دينه الملك العادل نور الدين ركن الإسلام والمسلمين منصف المظلومين من الظالمين أبو القاسم محمود بن زنكي ابن أبو سيف ناصر أمير المؤمنين أعزَّ الله أنصاره وأدام اقتداره وأعلى مناره ونشر في الخافقين ألويته وأعلامه وأعز أولياء دولته وأزال كفار نعمته وفتح له وعلى يديه؛ وذلك في شهور سنة أربعة وستين وخمس مائة"، وعلى يمين الخطيب وهو يرتقى المنبر مكتوب قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾ (النحل).
وكان القائد العظيم نور الدين محمود قد أعلن بعد الانتهاء من صناعة هذا المنبر أنه لن يهدأ له بال حتى يضعه عزيزًا كريمًا في المسجد الأقصى، ولكن مشيئة الله تعالى حالت دون ذلك فوافته المنية، وجاء دور القائد صلاح الدين الأيوبي صاحب الوفاء لقائده، فأكمل تنفيذ هذا المشروع من بعده، ففي سنة 583هـ/1187م استرد صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس بعد انتصاره في موقعة حطين على الصليبيين، وعامل المنهزمين بما عليه أخلاق الإسلام من سماحةٍ ورأفة، ثم اتجه صلاح الدين لتقديم أعظم هدية للمسجد، وكانت تلك الهدية هي هذا المنبر الذي أمر بإحضاره من حلب ليضعه في طليعة حرم المسجد الأقصى على يمين المحراب؛ ولذلك عُرف عند العامة باسم منبر صلاح الدين، وهو خطأ شائع، وظل المنبر قائمًا يرمز للنصر والتحرير، ويرمز للهمم العالية التي أحياها نور الدين ثم قادها صلاح الدين، ويرمز تاريخيًّا إلى مشروعٍ نهضوي قام به نور الدين بهدف إيقاظ همم الأمة الإسلامية التي تبلدت لعشراتِ السنوات مرعوبة من مواجهة الصليبيين حتى بعث الله تعالى نور الدين وجدد للإسلام دوره القيادي وجدد في المسلمين الهمم العالية ثم جمعهم على اختلاف أنسابهم وقومياتهم وألوانهم على مشروع تحرير المسجد الأقصى من الصليبيين بعد مرور تسعين عامًا على احتلال القدس الشريف والأقصى المبارك.
اليهود وحريق منبر نور الدين
يبدو أنَّ كلَّ هذه المعاني التي يُمثلها هذا المنبر ظلت تؤرق الصهاينة حتى تمكَّنوا من إحراقه على حين غفلةٍ من المسلمين، وهم يظنون أنهم إذا أحرقوا هذا المنبر فسوف يقضون على التطلع لتحرير المسجد الأقصى في حاضر المسلمين، فمنذ زمنٍ بعيدٍ بيَّت اليهود النية للنيل من القدس ومقدساتها وبالأخص المسجد الأقصى المبارك، وتعددت محاولاتهم في ذلك وتواصلت، وما زالت تتواصل محاولات الجماعات اليهودية المتطرفة للنيل من قدسية المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وجاء حريق المسجد الأقصى في 21/8/1969م في إطار سلسلةٍ من الإجراءاتِ التي انتهجها الصهاينة منذ عام 1948م لطمس الهوية الحضارية الإسلامية لمدينة القدس، حيث اقتحم المتطرف اليهودي مايكل روهان المسجد الأقصى وقام بإشعال النيران داخله، ومن أهم الأجزاء التي طالها الحريق داخل مبنى المسجد الأقصى المبارك منبر صلاح الدين الأيوبي فالتهمت نيران الحقد الصهيونية المنبرَ بكامله، ولم يبقَ منه إلاَّ بعض القطع المحروقة في المتحفِ الإسلامي بالمسجد الأقصى، ولولا الجهود الجبارة التي قام بها أهل القدس الذين تنادوا من كل حدبٍ وصوبٍ لإخمادِ النيران والدفاع عن المقدسات، لكانت النيران أتت على المسجد الأقصى بكامله وما حوله، وعلى الفور بررت السلطات الصهيونية الجريمة النكراء، مدعيةً أن المستوطن الذي اقترفها مختل عقليًّا.
المنبر الجديد وتحقيق الحلم
بعد إحراق المنبر قامت مباشرةً فكرة إعادة إنشائه من جديد، حيث حاولت جامعة الدول العربية وعدة دول عربية وإسلامية تحقيق هذه الفكرة، لكن تنفيذها لم يكن سهلاً، وفي الأردن وضعت وزارة الأوقاف بالتعاون مع اللجنة الملكية لإعمار القدس مسابقة لأفضل تصميم وتقدَّم لها عددٌ من الخبراء الأكفاء المتخصصون في فن الزخرفةِ في العالم الإسلامي، وفاز بالمسابقة المكتب الهندسي الأردني "المحراب"، وبدأ هذا المكتب بإعداد التصاميم وجمع المعلومات عن المنبر القديم؛ حيث تمَّ الاستناد إلى الصورِ والرسومات القديمة، وبعد ذلك تمَّ إنشاء معهد الفنون الإسلامية التقليدية التابع لجامعة البلقاء في كلية العلوم التطبيقية، ثم شرعت اللجنة والمكتب باستقدام الأيدي العاملة الخبيرة من خلال الإعلانات ثم المقابلات، ووقع الاختيار على مجموعةِ فنيين من تركيا وإندونيسيا ومصر والجزائر والأردن.
وتمَّت المباشرة بالعمل في 3/4/2002م بناءً على اتفاقية تمَّت بين وزارة الأوقاف وجامعة البلقاء، وكان الأصل أن يُقام منبر تجريبي ثم منبر نهائي إلا أنه عندما أُنتج المنبر التجريبي ووُجد مطابقًا للأصل استقرَّ الرأي على أن يكون نهائيًّا، واستغرقت عملية إنشائه أربع سنوات ونصف، وتمَّ تسليمه للجنة بتاريخ 13/7/2006م، وفي زيارةٍ للملك عبد الله الثاني ملك الأردن في 25/7/2006م قام بإزاحةِ الستار عن هذا المنبر مؤذنًا ببدء عملية إعادته إلى مكانه بالمسجد الأقصى، وتمَّ إعادته يوم الثلاثاء 23/1/2007م.
لم يكن إنجاز هذا العمل سهلاً على الإطلاق؛ حيث تمَّ تجميع 16500 قطعةً بدون مواد مثبتة نهائيًّا؛ الأمر الذي يدلُّ على تقدم الصناعة والفنون والعلوم في تاريخ الإسلام قبل حوالي 800 سنة، وقد احتوى المنبر الجديد على 15 مترًا مربعًا من خشب الجوز والذي تبرعت به الحكومة التركية، وقرنين من العاج تبرعت بهما حكومة السودان، وكان المبلغ المُقدر لإنشاء المنبر أربعة ملايين دينار أردني، لكن الكلفة الحقيقية هي 900 ألف دينار دون التبرعات، والمنبر هو نسخة طبق الأصل عن النسخة الأصلية، واستخدمت فيه فنون صناعة المنابر الخشبية والتي استخدمت في المنبر الأصلي.
هذه قصة هذه التحفة المتفردة على الأرض بجمالها، وأسرار إنشائها ورسالتها المتنورة.