أمطرتنا مكتباتنا شرقا وغربا بكتب غربية معربة، من أكثر المبيعات طبعا، موضوعها التنمية البشرية وفن القيادة وأساليب الإلقاء والتسويق والإقناع والمذاكرة وغيرها، فقد وضعوا لكل فن مناهج بشرية وقوانين وضعية تصيب تارة وتخطئ أخرى، بعضها يوافق الحق وهذا البعض لا نبخسه حقه بل نثني عليه وندعو إلى قراءته واتباع أحسنه، لكن هناك أمور أخرى جانبت الصواب بوجه أو بآخر.
كلما تصفحنا كتابا من هذه الكتب ، نجد حثا على الثقة بالنفس والإيمان بالقدرات وتفجير الطاقة الكامنة ، وعند قراءتنا لها نفتحها من الصفحة الاولى مع اليقين الكامل أنها الحل لجميع مشاكلنا، فبعد إنهاء الكتاب نبدأ في ملاحظة تغيرات حقيقية في حياتنا ، وحتما نؤمن أن ثقتنا بأنفسنا هي المحرك الذي يمدها بالطاقة للتغيير.
حسنا لنبدأ في تغيير هذه الصورة، إلى أي حد تثق بنفسك؟ إلى أي حد تثق بقدراتك؟ إلى أي حد تؤمن أنك قادر على إنجاز أي شيء يستطيع غيرك إنجازه؟
أظن أن إجاباتك عن هذه الأسئلة لن تكون واضحة، لكن لكي أساعدك في تشكيل الصورة عن مدى هذه الثقة، سأطرح بعض الأسئلة:
بدنيا: هل تستطيع تحمل بتر ساقك أو ذراعك دون أن تحس بذلك وبدون إستخدام أي عقار طبي أو مسكن ألم؟
عقليا: كم تحفظ من الصفحة إذا قرأتها مرة واحدة؟ هل لديك القدرة على حفظها كاملة؟ هل يحتفظ عقلك بأي رقم تسمعه؟
زمنيا: كم مرة تستطيع ختم القرآن في اليوم؟ هل بإمكانك ختمه مرتين؟ كم تسبيحة تستطيع أن تسبح في الدقيقة؟
قدرات طبيعية:
لقد أعطاك الله عز وجل قدرات هائلة، أعطاك عقلا وقلبا يتمتعان بخصائص مذهلة. عدد الخلايا العصبية في الدماغ يفوق 12 مليار خلية، ويصل إلى 14 مليار خلية لدى البعض. ويتكون المخ أيضا من خلايا صغيرة تسمى الواحدة منها نيورون، يصل عددها إلى 10 آلاف مليون، منظمة بدقة متناهية ، وتحدث ارتباطات وتفاعلات فيما بينها، وأكد بعض العلماء أن هناك ترابطا بين نسبة الذكاء وقدرات الذاكرة ، وبين هذه الإرتباطات في النيورونات، ومن المثبت أيضا أن الانسان قادر على معالجة ما يصل الى 30 مليار معلومة في كل ثانية، وتسريب الأوامر العصبية في كافة الجسم في نانو ثانية، وذلك لأن جسم الإنسان يحتوي على 28 مليار خلية عصبية، كما يمكن للإنسان بما يمتلكه من إمكانيات عقلية أن يختزن في ذاكرته 125 مليار معلومة.
بالإضافة إلى هذا النظام المعقد الذي يسمى العقل، هناك شيء آخر يطلق عليه “القلب” ، هذا الشيء يضخ في كل دقيقة حوالي 5 لترات من الدم، وذلك بنبضات عددها يبلغ قرابة 70 نبضة في الدقيقة، بما مجموعه في اليوم 7200 لتر. عند كل عطاس يتوقف قلب الإنسان لثوان معدودة، ثم يعاود النبض بقدرة قادر.
لماذا لا تبرز هذه القدرات عند حاجتنا إليها:
كان الإمام إبن إدريس الشافعي رحمه الله يقرأ الصفحة فيحفظها عن ظهر قلب، بل ويضع يديه على الصفحة المقابلة لكي لا يتداخل محتواها في عقله مع محتوى سابقتها، فكم عدد الترابطات بين النيورونات التي ذكرناها عن الشافعي، لتتمتع ذاكرته بهذه القدرة؟
ويروى عن الأئمة العظام والشافعي منهم ، أنهم كانوا يختمون القرآن مرة كل يوم، وفي رمضان يختمونه مرتين، بل ومنهم من كان يصلي بالقرآن كاملا في الليلة الواحدة في الأيام العادية.
هؤلاء كانوا يعلمون جيدا أن أنفسهم مهما انتهت إليه من كمال بشري ومها زودت به من خلايا ونيورونات وعضلات وأجهزة صوتية وعصبية .. فهي قاصرة عن إدراك حدود معينة ، إلا إذا وافقت توكلا كاملا على خالق هذه القدرات، يثقون بمن هو كامل في صفاته عز وجل وقدرته فوق كل شيء ، لا ينقص من خزائنه العطاء ولا يعجز عن شيء.
لم يكن للشافعي رحمه الله عنه شيء آخر غير العقل الذي خلقه الله لكل الناس، ولكن كان له قلب ملؤه الإيمان والثقة بالله عز وجل… ولذلك لما شكا إلى أستاذه وكيع رحمه الله سوء حفظه وتراجع ذاكرته، لم يجبه بأن يجدد ثقته بنفسه، ولم يطالبه بشحذ همته وموازنة طعامه، وإن كان في كل ذلك خير، إلا ذلك كله يبقى أمرا على غير شيء من الأهمية إذا قورن بالثقة بالله عز وجل، ولكن قال له العلم نور الله عز وجل ونوره لا يهدى لعاص ، وما كان هذا إلا لأن الشافعي نظر إلى كعب امرأة ، فتشوش حفظه وضعفت ذاكرته ، فقس نفسك به، وحفظك بحفظه وسيظهر لك سبب عدم قدرتنا على حفظ الصفحة من قراءة وحيدة.
أنشد الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخــبـــرنــي بــأن العـلم نور *** ونـور الله لا يــهــدى لعــاص
غير العنوان إن شئت، “ثق بالله قبل أن تثق بنفسك أو بغيرك” ، واهتف في العلياء بصوتك الندي.. “إياك نعبد وإياك نستعين”، إياك نستعين بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، ولا تلتفت لسفهاء الناس وغبائهم ، إذ يقولون ذاك زمان ولى ومضى ، وما من أحد قادر على ما قدروا، ولا تثبط نفسك فالله الذي أعطى أولئك لا زال حيا وهو الحي القيوم، ولا زال جوادا وهو الجواد الكريم .. ولا زال قادرا وهو القادر المقتدر العزيز الحكيم ، وهو كذلك سبحانه عز وجل دائما وأبدا