قبل أن تخسر رمضان
فمنذ أيام قريبة مضت كنا نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يمد في أعمارنا وينسأ في آجالنا حتى ندركه، وعاهدنا الله عهودًا كثيرة إن هو أبقانا إلى رمضان.. عهودًا على الطاعة وبذل الجهد واستفراغ الوسع في العبادة وعمل الصالحات، واستجاب الله دعاءنا بمنه بلغنا رمضان بفضله وكرمه، وجاء رمضان وكما هي عادة الأيام المباركات مر مسرعًا، فإن مثل مواسم الخير وساعات البر كمثل القطار أو الطائرة من كان مستعدا له منتظرا قدومه ركب فيه فبلغ به غايته وحقق به امنيته، ومن كان غاغلا عنه فاته غير أن رمضان إذا فات فلا يعوض.
إن أيام رمضان أشبه ما تكون بعقد انقطع سلكه فانفرطت خرزاته سريعا، فمرت منه (كما يقول البعض) عشر الرحمة، وكل أيامه رحمة، ثم عشر المغفرة وساعاته كلها مغفرة، وهانحن قد بدأنا عشر العتق من النار.
وقفة للمحاسبة
لقد مضى من رمضان ثلثاه وزيادة، ولم يبق إلا الثلث أو أقل، فينبغي على المسلم أن يقف وقفة يحاسب فيها نفسه: ماذا قدم فيما مضى؟ وماذا يرجو مما بقي؟ حتى لا يخرج رمضان كما دخل وحتى لا نخرج نحن منه كما دخلنا فيه، فما يدرينا هل ندرك رمضان آخر أم تسبق إلينا الآجال وتنقطع منا الأعمال.
لابد من هذه الوقفة للمحاسبة لتعرف أين أنت، وماذا استفدت من صيامك وقيامك؟ وهل تحققت فيك مقصود الله من فرض الصيام؟ وهل تحقق لك مقصودك أنت من شهر رمضان؟
هل رق قلبك بعد قسوته؟ هل نديت عينك بعد جمودها؟
هل تحسنت بالصوم أخلاقك، وتهذبت به ألفاظك؟
هل قويت إرادتك بالصوم فتركت معاص كنت تقترفها من شرب دخان أو نظر إلى المسلسات والأفلام أو غيرها.
هل أحسست بنسائم المغفرة وقد هبت على ذنوبك لتمحوها؟
هل أحسست بسحائب الرضوان وقد تنزلت على نفسك لتزكيها؟
هلا أحسست ببشائر العتق من النار، قد دللت عليها خفة في النفس، وانشراح في الصدر، وانطلاق وانهمال للعين، وإقبال في أريحية إلى العبادة؟
هل اشتم قلبك ريح الجنة ونسيمها، أم أن قلوبنا مازالت مزكومة ببرد المعاصي ومحجوبة بطبقات الران عليها؟
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صائمين ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم قائمين ليس لهم من قيامهم إلا طول السهر. ذاك أنهم لم يعرفوا من الصيام إلا الإمساك عن الطعام والشراب، ولم يدركوا مقاصد شهر رمضان: مازلنا والله نراهم..
أغفل الناس في زمان الجد والاجتهاد.
أولع الناس ـ في نهار رمضان ولياليه ـ بمشاهدة الشاشات والجلوس أمام القنوات.
أكثر الناس تسكعا في الأسواق في مواسم الخيرات.
الناس في المساجد يطلبون من ربهم العفو والمغفرة وهم يجلسون على المقاهي يشربون النرجيلة ويلعبون بالنرد.
الناس يتوددون إلى الله بقراءة القرآن ويتضرعون إليه بالدعاء وهم يلعبون الورق إلى السحر.
الناس يمسكون بتلابيب رمضان حتى لا يذهب وهم يتململون منه ويتمنون انتهاءه وانقضاءه.
ومازال هذا ديدنهم حتى ينقضي رمضان فيالخسارة المفرطين ويالندامة المضيعين.
الاجتهاد في العشر الأواخر
إن رمضان قد أخذ في النقص فزد أنت في العمل، فكأنك بالشهر قد انصرف ولن تجد من شهر الصيام خلف.
إن هذه الأيام التي نحن مقبلون عليها هي أعظم ليالي السنة، بل هي كالتاج على رأس أيام وليالي رمضان بل وكل الزمن، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يعظمونها. يقول أبوعثمان: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأول من المحرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لهذا الثلث استعدادًا خاصًا ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره".
وفي الصحيحين عنها أيضًا: "كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
وفي الحديث دلالة على أمور ثلاثة:
الأول: شد المئز وهو كناية عن اعتزال النساء للتفرغ للعبادة، فإن كان يأتي أهله في العشرين الأولى فإنه لا يفعله في العشر الأواخر إذ لا وقت لذلك وإنما هي العبادة والعبادة فقط.
الثاني: إحياء الليل فقد ذكر أنه في العشرين الأولى كان يخلط عبادة بنوم، أما في العشر فلا نوم مطلقا، أو ربما بما يتقوى فقط به البدن.
والثالث: أنه كان يوقظ أهله للتعبد والتماس البركات والخيرات في هذه الليالي الكريمات العظيمات.
قال ابن رجب: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
وقال سفيان الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده للصلاة إن أطاقوا ذلك .