بينما كنت أهيء نفسي في صباح اليوم الخامس من شهر كانون الثاني من عام 1996 للذهاب إلى صلاة الجمعة بإحدى مساجد مدينة نابلس،حيث كنت أدرس في جامعتها،وإذا بمكبرات الصوت التابعة لمساجد مدينة النار تعلن عن "استشهاد قائد خلايا عز الدين القسام في الضفة الغربية يحيى عياش" جراء مادة قاتلة وضعت بداخل هاتفه المحمول،تم تفجيرها بواسطة طائرة إسرائيلية،كانت تحلق فوق مكان تواجده بمدينة غزة.
وفور سماعي الخبر شعرت بهزة قوية اعترت جسدي وقلبي لفراق "المهندس الأول" الذي أسس لمشروع مقاومة جديد في الثورة الفلسطينية عبر تصنيع المتفجرات،وبأشكالها المختلفة،إلى جانب ما ابتكره من ذخائر وأسلحة نوعية،نجح في تصنيعها من مواد طبيعية بسيطة،علاوة على قدرته بخلق جيل يستطيع مواصلة وتطوير وتوسيع مثل هذا النموذج العسكري المتميز بعد رحيله.هذا الثائر الفلسطيني الذي لم يشأ أن يلتحق بوظيفةٍ كغيره من الخريجين صمم على الانخراط في صفوف القسام ليصبح "أسطورة" في مقاومة الاحتلال،سواء عبر قدراته الرائعة في التصنيع والتجنيد،أو من خلال تمكنه غير المسبوق في التخفي لسنوات طويلة،إلى أن تمكنت منه اليد الخبيئة لتوقعه في مصيدة استهداف الدولة العبرية.فكان لها ما أرادت.
وبما أن "الثورات لا تفنى بموت رجالها أو قوة أعدائها"،فإن غبطة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، حينذاك موشيه شاحال،الذي صرح عقب استشهاد أبا البراء:" آن لإسرائيل أن تتنفس بشكل أفضل بعد مصرع عياش"،لم تستمر كثيراً،حيث أن الثأر لدم عياش أخذ ينهال على مدن إسرائيل من خلال العمليات الاستشهادية المكثفة،والتي أودت إلى جانب مئات القتلى والجرحى وتدمير وشلل مساحات واسعة من قطاعات الحياة الإسرائيلية،برئيس الوزراء وقتذاك شيمعون بيريز عن سدة الحكم،لتتحقق بذلك نبوءة مشيعي "المهندس،الذين بلغ تعدادهم أكثر من ربع مليون عبر ما رددوه من شعار" جهز نعشك يا بيريز"،فكان النعش سياسي والتابوت موئلاً لمن اقترفت دولتهم اهراق دم أبرز ما أنجبت فلسطين من ثائرين رهنوا حياتهم للوطن وتحريره.
وتأتي الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد يحيى عياش، وتلامذة نموذجه ومدرسته يسطرون صموداً نادراً، ويذيقون قوات الاحتلال الإسرائيلي لعنة جديدة،تضاف إلى اللعنة الكبرى التي منيت بها "الدولة المارقة" على يد مقاومي حزب الله في حرب تموز عام 2006.كذلك فإن الأفكار التي أُسست على أساسها صناعة وتطوير أسلحة المقاومة،سيما تلك التي بحوزة القسام ما هي إلا بذور نمت وامتدت بفضل الشهيد عياش الذي كان يذكر من حوله بمقولته الشهيرة:" إن الحرب ضد إسرائيل يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين ".
يحيى عياش ارتقى إلى ربه شهيداً ثائراً، معلماً أبناء فلسطين معنى الثورة والصمود،وأن استرداد هذه الأرض المغتصبة تحتاج إلى ثوار يعشقون الشهادة والآخرة مثلما يعشق المحتلين الدنيا وملذاتها.فكيف يموت عياش وذكراه ما زالت مرتبطة بأوصاف شتى.فما أن تذكر ألقاب "كالأسطورة" و"المهندس الأول" و"صائد الجنود" إلا ويذكر يحيى عياش .كيف يُنسى عياش وأكثر من 25 عائلة فلسطينية أطلقت اسم "يحيى عياش" على مواليدها الذين ولدوا خلال الأيام الأربعة الأولى عقب استشهاد عياش. لن ينسى الشعب الفلسطيني هذا الثائر أبداً.لن ننساه،حتى وشعبنا يتعرض إلى إبادة لم يسبق لها مثيل.فالشهداء لن ننساهم .كيف ننساهم وهم الذين ضحوا بأرواحهم من أجل حرية فلسطين وكرامة أهلها. لن ننسى أبو عمار، وأبو علي مصطفى وفتحي الشقافي وأحمد ياسين،وعبد العزيز الرنتيسي الذي رثى شهيدنا عياش بقصيدة عظيمة نقتطف منها خمسة أبيات:
عياش حي لا تقل عياش مات ... هل يجف النيل أو نبع الفرات
عياش شمس والشموس قليلة ... بشروقها تهدي الحياة إلى الحياة
عياش يحيا في القلوب مجدداً.... فيها دماء الثأر تعصف بالطغاة
اليوم يا يحيى ستنهض امة .... وتثور تنفض عن كواهلها السبات
أبشر فإن جهادنا متواصل.... إن غاب مقدام سيخلفه مئات