Admin Admin
عدد الرسائل : 1849 عدد نقاط العضو : 4089 تاريخ التسجيل : 08/01/2009
| موضوع: "رصاصتان" بقلم الدكتور صلاح البردويل الثلاثاء يناير 17, 2012 11:07 pm | |
| "رصاصتان" بقلم الدكتور صلاح البردويل الحلقة الثانية كم كانت طويلة ساعات هذه الليلة على قلب محمد، و كم كانت أطول على قلب جدته صفية، التي باتت تنتظر الصباح بفارغ الصبر، و هي تحتضنه، و تمسح على شعره الناعم، كما تعودت أن تمسح على شعر والده قبل أن يستشهد. نفس الشعر، و نفس اللون، و نفس الملمس. متى سيطلع الصبح يا جدتي؟ متى سنذهب إلى هناك؟ لقد اشتقت كثيرا إليه، من يوم استشهاده لم أزره!، حدثيني عن والدي يا جدتي، حدثيني عن قبره، حدثيني عن الورد الذي طلع هناك، حدثيني عن العصافير، عن رائحة المسك، مشتاق إلى سيرة والدي، مشتاق إلى رائحته، مشتاق لأن أقف طويلا أقرأ القرآن و أسأله عن حاله في الجنة. قالت و هي تضمه إلى صدرها: نم يا محمد، غدا ستراه، غدا ستقف على قبره، غدا يلتقي الأحبة يا ولدي، كان جميلا، و غاليا، كنت أخاف عليه من الريح الطائر، لكن خوفي لم يمنعه من الطيران إلى حيث أراد، كنت أخبئه في عيوني بالليل حتى يصبح الصباح، لأشبع منه ناظري، عم أتحدث لك يا ولدي؟. قال: لماذا إذن لم تأخذيني كل هذه المدة إلى قبره لأراه؟. قالت: أتريد أن أموت خوفا عليك يا حبة عيني؟ قال: مم؟. قالت: من الدبابات التي تحاصر المقابر، ما تزال رائحة دم أبيك في أنفي، آه يا محمد! لا تدري ما سيحدث لو أصابك مكروه_ لا سمح الله_ !!. قال: و ماذا يريدون من حصار المقابر؟. قالت: يخافون من عظام الشهداء. ابتسم الطفل محمد، و قال: الحمد لله، ها هم قد انسحبوا. قالت: بدم الشهداء انسحبوا، و سينسحبون من الدنيا كلها بإذن الله، نم الآن يا محمد حتى نزور في الصباح. قال: وهل سأزور والدي بملابسي القديمة؟. دمعت الجدة و قالت:بل سأشتري لك أجمل الملابس من أجمل محلات وسط غزة غدا. أنت الغالي ابن الغالي يا محمد. دخلت الحاجة صفية المعرض الكبير، وسط غزة وهي تمسك حفيدها بيد، و تضع يدها الأخرى على كيس نقودها المعلق في عنقها، و أخذت تقلب النظر في ملابس الأطفال المعلقة، أشكالا و ألوانا. صاحب المحل_ الذي لم يلتفت إليها_ كان يتحدث باهتمام شديد إلى زبون تبدو على ملابسه علامات الغنى، و في عيونه علامات الاحتيال. قال: ألف مبروك. قال: علينا جميعا. قال: أخيرا سنأخذ أنفاسنا، و نعقد صفقاتنا التي تعطلت، ونحرر بضاعتنا التي تكدست في المواني. قال: المصلحة واحدة، كان يجب أن تنتهي هذه المهزلة من فترة طويلة. ماذا استفدنا سوى وجع القلب، و تعطيل المصالح؟!. قال: كان لا بد من العين الحمراء، لأن الناس لا تفهم الذوق أحيانا. قال صاحب المحل: المهم أنهم في النهاية خضعوا و وافقوا على الهدنة، و لكن نسأل الله أن تدوم. قال: ستدوم، و لن يسمح لكائن من كان أن يطلق رصاصة واحدة على الطرف الآخر، نريد أن نعيش كما كنا نعيش. نريد أن تعود أمورنا إلى ما قبل الثامن و العشرين من سبتمبر. قال صاحب المحل: هل تذكر؟!. ق ال: و كيف أنسى تلك الأيام؟! وقتها كنا لا يحلو العشاء لنا إلا في تل أبيب!، قال: هل تذكر عندما كنا نلعب الشدّة، و خطر ببالنا أن نشرب الشاى في مطعم " يد مردخاي"؟. قال: قصدك شرب الشاي أم ضرب الناي؟. وعلا صوتهما بالضحك معا. كانت الحاجة صفية تسمع كلامهما بمرارة، و هي تقلب قميصاً أعجبها لمحمد، نادت على صاحب المحل: بكم هذا القميص يا أفندي؟. كان صاحب المحل يواصل الضحك، و عندما انتبه إلى سؤالها، أجاب باستغراب: هذا غال، هناك ما هو أرخص. قالت: ليس عندي ما هو أغلى من محمد. و مدًت يدها إلى كيس نقودها، لتخرج ما به، فخرجت منه رصاصتان كانت قد احتفظت بهما عندما ودًعت ابنها الشهيد، و و جدتهما في جيبه. ارتبك صاحب المحل عندما رأى الرصاص، و قال: القميص ليس للبيع، لو سمحت. قالت: لماذا؟!!. قال_ وهو يلتفت إلى زبونه: انتظري حتى نرى الناس. قال الزبون: أرجوك، لقد تأخرت عن الموعد، اطو لي البذلة الجديدة، لألحق بالركب، اليوم سنفتتح مفرق نيتساريم الذي انسحبت منه قوات الجيش الإسرائيلي. قال: بالتوفيق إن شاء الله، أعانكم الله. قالت الحاجة صفية: لماذا هذا الإهمال؟ ألا ترى أن أمامك بشرا يستحقون الاهتمام؟ ألا تعرف أنني أم شهيد، و أن هذا ابن شهيد؟ لم نجئ لنشحذ منك، جئنا لنشتري أجمل القمصان، لتليق بمقام الشهيد الذي سنزوره، هذا الشهيد هو الذي افتتح المفارق و الشوارع، و هو الذي أخرجكم من جحوركم. بهت صاحب المحل، و ارتبك الزبون. قال الصغير محمد: لا أريد قميصا جديدا يا جدتي، أريد أن أقابل أبي بقميصي القديم الذي اشتراه لي. أعطني الرصاصتين إن كنت عزيزا عليك، فنظرت إليه و الدموع تترقرق في عينيها، وناولته الرصاصتين، و خرجا معا إلى هناك. | |
|